19 ديسمبر، 2024 12:47 ص

جاك بريفير وظل شجرة آدم

جاك بريفير وظل شجرة آدم

في الحرب ، كُتب الشِعر مثل صمون الجيش ، وحدهُ من يُشبعْ البطن ، وحين تكون أمكنة المحنة التي يعيشها قلقي على حياتي ، أتمنى أن تكون جبهات الأهوار هي نافذة الولوج الى السماء حيث هتاف دلمون يكون قريبا الى متعة السياحة هناك في أمكنة الآلهة وعازفات القيثارات ، وربما هو أرحم لكَ من ذلك الموت الذي يأتيكَ في الليل الثلجي متربصاً بنقطة حراستكَ من فتحة الربيئة لينال رأسكَ برصاصة قناص ، فيكون وصولكَ الى دلمون صعباً .

أتخيلْ أشهر الربيع في أهوار مجنون التي تنطلق منها من مدينة المْدَينة حيث تأسركَ في كل مرة ساعة استراحة تقضيها تحت ظل شجرة آدم بعد طريق طويل بين الناصرية ومجنون مرورا بقضاء الجبايش والهوير ثم المْدَينة ومنها تنتظركَ قافلة الفوج لتنقل الملتحقين الى حقول مجنون هناك حيث يشتبكُ القصب بأعناق المدافع وتختبئ في ملجأكَ الطيني وعلى غير عادة الجنود الذين يحملون التمائم ومفاتيح الجنان ، فيما تحمل  أنت وجهَ امكَ الممتلئ بأدعية الشفاعة لأهل البيت وكتابا لقصائد الفرنسي جاك بريفير الذي تفرحكَ فيه قصيدته الساحرة :

(( الكل يموت …الحمار والملك وأنا .

الحمار من الجوع ، والملك من السأم  ، وأنا من الحب ))

تقع الشجرة في مكان غير بعيد عن ملتقى الرافدين ، وليس بعيد عن مساحات غابات القصب والاهوار التي تمتد بمساحات من الاخضر والسماء حتى مدينة الاحواز ، ويقال أنَ تاريخها يرتبط بالصلاة الأولى لإبراهيم وقوله ع : ستنبت في هذه البقعة شجرة كشجرة آدم في جنة عدن”.

وبالرغم من أنها غادرتها الأوراق كونها شجرة هرمة إلا أنها مزارا يومياً لمختلف الطوائف العراقية حيث كان يزورها المسلمين واليهود والنصارى على حد سواء ، واليوم لا يزورها سوى الجنود والنساء اللائي يجيئن الى الشجرة برايات بيض وأصابع محناة طلباً للشفاعة من الشجرة المباركة لتحفظ  ابنائهن من الحرب.

هنا كان لي متعة قراءة بريفير في استراحة الطريق ، حيث تمتعني الذائقة الشعبية لشاعر باريس بأمنيات أن ارى المدينة واحصل بفضل شفاعة الشجرة وموسيقى قصائده على مزيجٍ من الحنين الى المكان الفرنسي وعالمه الاسطوري وبين هواجس القلق الكبير الذي يحمله الدان الايراني القادم من عمق اهوار الاحواز ليعالج سرايانا الممتدة من مجنون الى الدير شمالا وناحية العزير جنوبا.

وهكذا يكون عسيرا أن تصنع تجانسٌ بين رائحة السدر القادمة من تواريخ الشجرة ، وبين عطر السانت لوران الذي يضعه بريفير قبل طقس كتابة القصيدة في شقته الصغيرة وهو يكتب بذائقة البحث عن الاشياء الاليفة الذاهبة الى جمال زنجية تستعرض فتنتها الطوطمية على رصيف الشانزليزيه فيما دخان غليون الشاعر يدون المشهد بشهيته المرحة.

أما انا فعطريَّ تراب الخنادق الشقية ورائحة السمك النافق على مياه الاهوار نتيجة دوي القنابل الساقطة في الماء ليكون ليلنا مزعجا من الروائح الكريهة لتعفن السمك.

لاختلق في الصباح الف عذر لأحصل على اذن بالنزول الى القرنة لنهار واحد واصطحب معي كتاب بريفير وحلم الوصول الى باريس.

وهناك تحت شجرة آدم استريح بخواطري عندما اغلق الكتاب الشعري لصديقي الفرنسي واباشر بكتابة مقالة عنوانها : تُرى هل أرى باريس ؟