مضى اكثر من اسبوعين على اعتقال الصحفي الفرنسي نادر دندون، دون ان نجد تصريحا مقنعا للسلطات العراقية عن ذلك، ولا اعلم ان كان هذا السكوت بسبب الورطة ام انه استخفاف بالرأي العام الدولي والمحلي.
وشهد العراق حالات اعتقال لصحفيين أجانب بعد انسحاب القوات الأميركية، حيث اعتقلت السلطات الأمنية العام الماضي، الصحفي الأميركي دانيال سميث لمدة 5 أيام، من قبل اجهزة الاستخبارات العسكرية، واطلق سراحه بقرار من رئيس الوزراء نوري المالكي بعد تدخل مرصد الحريات الصحفية، اما اليوم فهي تعتقل دندون الذي يعمل لصالح ”لوموند ديبلوماتيك” وهي اشهر مجلة سياسية فرنسية وتصدر باللغة العربية في11 دولة، ولها طبعات بلغات مختلفة في14 دولة أوروبية، وثمان من دول الأميركيتين، وست دول كبرى في آسيا وإفريقيا.
اعتقل رجال الاستخبارات العراقية مراسلها عندما كان في جنوب بغداد، وهو يصور ويتفقد مناطق كانت تسيطر عليها مجاميع متشددة، لأعداد قصص عن الذكرى العاشرة للاجتياح الامريكي للبلاد، والذريعة انه يعمل بدون تصريح للتصوير، ولكن سرعان ماتحول هذا الاتهام الى تهمة “التجسس” بعد ان فتشوا ارشيف له يحتوي على صور لمقرات امنية تدعي الاستخبارات انها “مقرات حساسة ولايجوز تصويرها”، دون ان تصرح بهذا الاتهام رسمياً، ولان دندون معتاد في اغلب اوقاته – بالتأكيد- على استخدام وسائل حديثة للخرائط التي توضح له اي مبنى يبحث عنه في العالم بكل تفاصيله من خلال الغوغل ايرث بنسخته الاخيرة الموجود في اجهزة هواتفنا الذكية، فانه لم يتوقع ان هناك اشخاصا لم يطلعوا الى الان على تلك التطوارات التكنولوجية الحديثة وهم مازالو يتعاملون مع الصورة على انها الخطر الاكبر الذي يمس الامن القومي.
الرجل الذي يحمل جنسية فرنسية واخرى استرالية لم يتوقع ان التقاطه صورة لمبنى متهالك تحيط به عشرات الكتل الخرسانية والاسلاك الشائكة العالقة فيها بقايا نفايات ورقية، او لسيارة نجدة لم يسمح لها بالتحرك لملاحقة المجرمين او المسلحين سيؤدي به الى الاحتجاز داخل سجن لم يتوفر فيه مترجم، ولم تعلن السلطات حتى عن اعتقاله الا بعد اسبوع دون ان تعلن التفاصيل.
والمؤكد هنا، ان الصحفي دندون دخل العراق بتأشيرة صحفية ولم تكن لديه نية لارتكاب مخالفات قانونية كما أنه لا يعرف أن تصوير المواقع الأمنية يحتاج إلى ترخيص مسبق، كون كل شيء في بلدنا غامض وقوانينه غير واضحة وليس فيه علامات قد تحذرك من تصوير مكان ما يتوقعها جنرالات اميون بوسائل التكنلوجيا الحديثة انها “حساسة”.
ان اوساطنا الصحفية وكبار الكتاب العراقيين صدموا عندما سمعوا بأن زميلهم دندون مثل أمام قاضي التحقيق وهو مكبل اليدين، لانه ليس مجرما كما تعتقد اجهزة الاستخبارات، وان دخوله للعراق قانوني وبتأشيرة صحفية صادرة عن السفارة العراقية في باريس.
وللعراق سجل سيئ في التعامل مع الصحفيين الاجانب، ففي الوقت الذي يجري احتجازهم او اعتقالهم اثناء ممارسة مهامهم الصحفية، فهم لا يحصلون على سمة الدخول الى العراق بسهولة..
اما اجهزة الاستخبارات التي اعتقلت دندون فهي امتداد للاجهزة التي اعتقلت في عام 1990 الصحفي البريطاني فرزاذ بازوفت، الذي كان يستقصي انفجار ضخم هز مجمع الإسكندرية للتصنيع العسكري، الذي راح ضحيته أكثر من 700 قتيل ومئات المصابين بعاهات دائمة.
وحين حاول فرزاذ بازوفت مراسل مجلة “الاوبزرفر البريطانية” التحقيق في تلك الماسأة، وهو من اصل إيراني ويحمل الجنسية البريطانية، ،وعندما هم بجمع المعلومات عن كارثة الاسكندرية ألقت المخابرات العراقية القبض عليه، واتهمته “بالتجسس لحساب إسرائيل” وانتزعت منه اعترافات بالقوة، و حكمه نظام صدام بالاعدام “شنقا حتى الموت”.
ولم يعر الرئيس السابق صدام حسين المصاب بجنون القوة الانتقادات والاحتجاجات الدولية التي تزامنت مع اعتقال بازوفت، وأخذ ينظر إلى العراق بوصفه قلعة محاصرة قادرة على تحدي العالم الذي أمده بقوته..
ويبدو أن التعاطي مع القضية هذه سجلت فشلا جديدا للحكومة العراقية، في كيفية التعامل مع القضايا ذات الطابع الدولي، وقد لا أستبعد أن تتحول الى أزمة مع فرنسا و استراليا.
الواضح إن إ عتقال دندون وضع الحكومة العراقية في ورطة، ويبدو إن عراق اليوم يشبه الماضي، فأنه لايسمع العالم ولايرد عليه، خارجية استراليا، عبرت قبل أيام عن قلقها لإستمرار اعتقال الصحفي الاسترالي دون توجيه تهم محددة له، والسفير الفرنسي في بغداد إلتقى المسؤول عن مكتب رئيس الوزراء نوري المالكي ليؤكد له إن فرنسا “لا تتفهم” ما حصل للصحفي المحتجز لدى أجهزة الإستخبارات العراقية.
قضية إعتقال نادر دندون تعطينا إشارات على إن السلطات الحكومية تضيف لنا هموم متواصلة وشكوك جديدة حول مستقبل مظلم لحرية الصحافة في العراق.
تقرير مرصد الحريات الصحفية، الذي صدر في آيار/ مايو الماضي، وشارك في كتابته مجموعة من الصحفيين البارزين، بين أن العمل الصحفي الميداني وحمل الكاميرا أمرا معقدا للغاية، حيث تحصر السلطات أمر السماح لحركة الصحفيين وتجوالهم بالقيادات العسكرية والأمنية في جميع المدن العراقية، ويتعرض الصحفيون في أغلب الأحيان للمنع من التصوير والتغطية الإعلامية ما لم يحصلوا على موافقات أمنية مسبقة تكون معقدة وكيفية في الغالب، وعلى حد تعبير صحفيين بارزين يديرون غرف الأخبار في المحطات المحلية فإن السلطات تتعامل مع كاميرا المراسلين كتعاملها مع الأسلحة غير المرخصة أو أصابع الديناميت والسيارات المفخخة.
لا أحد يستطيع اليوم أن يبرر أو يدافع عن جنرالات تسببوا بتوريط الحكومة العراقية بملف الحريات وعلاقاتها الدولية، وإن خرج دندون أو حكم عليه بتهمة “التجسس” فأن العار قد لحق بنا وسيلازمنا لوقت طويل، إلا في حالة واحدة وهو معاقبة جنرالات مدرسة البعث وإبعادهم عن ملف بغداد الأمني، حتى لا تشوه سمعة العراق دولياً، كوننا اليوم أصدقاء للغرب وللمجتمع الدولي وعلاقانتا مع العالم تختلف عن سياسية رئيس النظام السابق صدام حسين الذي كان يعاديهم ويعد العراق قلعته المحصنة .
هذه السياسة لايمكن ان تكون نافعة لبناء دولة مدنية ولن تساعد في تأكيد الديمقراطية، وربما ستثير المزيد من المخاوف لدى الصحفيين الغربيين الذين يصطدمون عادة بحواجز الترهيب من إدعاءات التجسس والعمل لحساب اجهزة مخابرات كما تعودناها في عهد النظام الشمولي، ولابد من سياسة جديدة تعتمد الشفافية وترسخ مفاهيم العمل الديمقراطي بعيدا عن التحصن بعقد وافكار لاتمتلك رصيدا من الحيوية على الإطلاق ولن تكون هي الحل.
[email protected]