23 ديسمبر، 2024 7:24 ص

ثَقَافَةُ القُبُوْلِ بِالخَسَارَةِ.

ثَقَافَةُ القُبُوْلِ بِالخَسَارَةِ.

تَعلَّمَ الانسَانُ العَرَبِيُّ بِشَكلٍ أَعَمٍّ، و العِرَاقِيُّ بِشَكلٍ أَخَصٍّ، أَنْ لا يُحِبَّ الخسَارةَ أو الفَشَلَ، لأَنَّ كُلَّ فَشَلٍ بأَيّ تَجربَةٍ حياتيَّةٍ كانَتْ، تُشْعِرَهُ نَفسيّاً بأَنَّهُ غيرُ مؤَهَّلٍ، لخَوضِ تلك التجربَةِ أو التَّجاربِ، الّتي فَشِلَ في تَحقيقِ النَّجاحِ فيهَا. هذا الشُعورُ النَّفسيُّ المُؤلِمُ، يَجعلُهُ يَشْعِرُ بمَرارةِ الإِحبَاط. و إذا ما تكرَّرتْ عَليْهِ تَجارِبُ الفَشَلِ، فإِنَّهُ يَبْدَأُ بأَخذِ مَواقِفٍ سَلبيَّةٍ أو عُدوانيَّةٍ تِجَاهَ الآخرينَ، و خُصوصاً الّذينَ يُشكِّلونَ، الفَريْقَ المنَافِسَ له.

هَذا الوَجْهُ يُمثِّلُ الجَانِبَ السَّلبيّ، مِن ثَقافَةِ الانسَانِ العَربيّ عُمومَاً، و العِراقِيّ خُصوصَاً. لأَنَّ مَوضوعَ الخَسَارَةِ أو الفَشَلِ، ارتَبَطَ بثَقافَتِهِ و تَربيَتِهِ الأُوْلَى. فكُلُّنَا عِنْدَما كُنَّا في المَدارسِ الابتدَائيَّةِ، و يَفشَلُ أَحَدُنَا في مَادَّةٍ دراسِيَّةِ مُعيَّنَةٍ، فإِنَّهُ بِلا شَكٍّ، سَيُوصَفُ مِن قِبَلِ اقرانِهِ، و مُعلميْهِ و عائلتِهِ، بأَنَّهُ غبيٌّ و كَسولٌ و فَاشِلٌ. و مِن هنا تأسَّستْ في ذَواتِنا، ثقافَةُ أَنَّ (الفَشَلَ عَارٌ).

وهذا التَّوصِيفُ القَاسِي، سيُؤَدّي الى إِصَابَةِ الطّالِبِ اليَافِعِ غيّرِ النَّاجِحِ، بخَيّْبَةِ أَمَلٍ كبيرَةٍ، تَظَلُّ دَفينَةً في أَعماقِ ذاكِرتِهِ اللاشُعوريَّةِ، و إِنْ بَلَغَ مِنَ العُمْرِ عِتيّاً. و لأَجلِ أَنْ يُعيدَ الطالِبُ المُحبَطُ، ثِقتَهُ في نَظَرِ أُسرَتِهِ و أَقرانِهِ، فإِنَّهُ يَبدَأُ بالحديثِ: بأَنَّ أَسئِلةَ الامتِحانِ كانتْ صَعبَةٌ، أو أَنَّها ليسَتْ من كتابِ المَنهَج. أو أَنَّ مُعلِّمَ المادَّةِ الّتي فَشِلَ فيها، يَكُنُّ لَهُ العِدَاءَ الشَّخصِيّ…. الى آخره، من تلكَ التَبريْراتِ السَاذجَة. مِن هذهِ النُّقطَةِ و غيّرِها، تَبدَأُ مَرحَلَةُ التَّكويّنِ الثَّقافيّ، في التَّعامُلِ معَ تجاربِ الفَشَلِ، على أَنَّهُ شَيءٌ مُعيّب. و أَنَّهُ انعكاسٌ لحَالَةِ النَقصِ، في عَوامِلِ الذَّكاءِ أو الكفَاءَةِ الشَّخصيَّة.

بيّنما الغَربيّونَ لا يَتعامَلونَ، معَ تجارِبِ الفَشَلِ، بمثلِ سَلبيَّتِنا في التَّعامُلِ معَها. فَهُم يتَجاوَزونَ النَّظرَةَ السَلبيَّةَ، في التَّعامُلِ مع مُعطياتِ الواقِع. فالغربيّونَ لا يَبنونَ ثَقافَتَهُمْ، إزاءَ تجاربِ الفَشَلِ، بالشَّكلِ الّذي نتعامَلُ بهِ نَحنُ، حَسَبَ موروثِنَا الثَّقافيّ. فإِنَّهُمْ يُرَبُّونَ أَبنَاءَهُم، على تَقَبُلِ حالَةِ الفَشَلِ، و إِخضَاعِها لعمليَّةِ التَّحليلِ و الدِّراسَةِ، حتّى يَصِلَ الانسَانُ، الى العَوامِلِ و الأَسبَابِ، الّتي أَدَّتْ الى ذلك الفَشَل.

إِذَنْ الأَمْرُ مُختَلِفٌ، بيّنَ ثَقافَتِنا و ثَقافَتِهم، في تَنَاولِ الموضُوع. الطَّرحُ الغَربيُّ، يُشجِّعُ على مَعرفَةِ أَسبابِ الفَشَلِ، و إِعادَةِ التجربَةِ، للوصولِ الى النَّجاحِ، بعدَ استِبعادِ العوامِلِ السَلبيَّةِ الّتي، غَفِلَ عَنّها صاحِبُ التجربَةِ، و أَدَّتْ بالنتيجَةِ الى فَشَلِه. إِنَّهُ المَنهَجُ العِلميّ التَّحليليّ، لمعرِفَةِ الأَسبابِ و المُسَبِبات.

بيّنما نَحنُ، نتَناولُ الموضوعَ على أَساسِ، وجُودِ عيّْبٍ أو نَقصٍ، في القُدُراتِ و المهَاراتِ التَّكوينيَّةِ، في الشَّخصِ المَعني. إِنَّها نَظريَّةٌ تَحمِلُ في طيّاتِها، إِثارَةَ مَشاعِرِ الأَلَمِ، و الإِحبَاطِ النَّفسيَّينِ، عندَ الانسَانِ المُتَّعرضِ لتجرِبَةِ الفَشَل.

ولا نَستغرِبُ إِذا ما قُلنا أَنَّ فِكرَنَا الإِسلاميّ، قَدّْ سَبَقَ العَالَمَ الغَربِيّ، بعَشَراتِ القُرونِ، عنّدَما أَكَّدَ على التَّعامُلِ، بإيجابيَّةٍ معَ تَجارِبِ الفَشَلِ، على عَكسِ مَا تَذهبُ إِليّهِ، ثَقافَتُنا المُجتَمَعيَّةِ السَّائِدَةِ بَيّنَنا الآن.

كما أَنَّ هذا الفِكْرُ الجَليلُ، قدّْ رَفَدَنا بالكَثيرِ مِنَ النُّصوصِ، الّتي تُؤكِدُ أَنَّ الفَشَلَ و النَّجاحَ، لهُمَا عَوامِلَهُما الموضوعيَّةِ الفَاعلَةِ،

بالتَّأثيرِ على نَتائِجِ أَيَّةِ تَجربَةٍ، يَخوضُها الانسَان. و لا أُبَالِغُ عنّدَما أَقُولُ؛ بأَنَّ الفِكْرَ الإِسلاميّ، هو رائدُ مَنْهَجِ التَحليْلِ العِلمِيّ، و هَذا المَنْهَجُ، قَدّْ وَظَّفَهُ الغَربيّونَ لِصَالِحِهِمْ، بشَكْلٍ إِيجَابيّ، ليَكونَ جُزءاً مِن تَجَارِبِهِمْ الحَياتيَّةِ و العِلميَّةِ، بيّنَما نَحنُ قَدّْ تَخَلَّيْنَا عَنهُ، لا بَلّْ قَدّْ نَسيّْناهُ أَيّضاً.

و القُرآنُ الكَريمُ، يتَصَدَّرُ طَليعَةَ الفِكْرِ الإِسْلامِيّ، بتَقديْمِ العَديْدِ مِنَ النُّصوصِ القُرآنيَّةِ المُقدَّسَةِ، الّتي تُؤكِدُ على أَهمِّيَةِ، التَّفَكُرِ و التّدَبُرِ و إِعمالِ العَقْلِ، لتَوّفيرِ صِّحَةِ المُقدِّماتِ، في أَيّ مَوضوعٍ كَانْ، لضَمانِ صِحَّةِ النَّتائجِ فِيْه. و قدّْ عَرَّفَ الفَلاسِفَةُ الإِسلامِيّونَ، هذا المَوضُوعَ، بقَانُونِ (العِلَّةِ و المَعلول).

و مِنَ المُفيدِ، أَنْ أُذَكِّرَ بتجربَةِ الرَّسولِ مُحمَّدٍ(ص)، في مَعركَةِ أُحُدٍ، الّتي تَكَبَّدَ فيها المُسلمونَ، أَفدَحَ الخَسائِرِ، بسبَبِ وجودِ ثَغرَةٍ، في جَبهَةٍ مِن جبهاتِ القِتَال. لكنَّ رسولَ اللهِ (ص)، أَكملَ المِشوارَ الرِّسَالِيّ، مُعَلِّماً النَّاسَ، أَنَّ العَمَلَ الجَادَّ و التَّخْطِيطَ المُسبَقِّ، مِن الوَسائلِ الكَفيْلَةِ، للتَغلُّبِ على عَوامِلِ الفَشَل.

و لكيّ أَضَعَ القَارِئَ الكريمَ، في صُلبِ الفِكرَةِ الّتي أُريْدُ إِيصَالَها إليّه، لابُدَّ مِن وضْعِ، نتَائِجِ الانتخاباتِ البرلمانيَّةِ لعَامِ 2014، و الّتي أُعلِنَتْ نَتائِجُها في يَومِ 19/5/ 2014، كمُشْكِلَةٍ يَجِبُ إِخضَاعُها لمَنْهَجِ البَحْث. فهذهِ النَّتائجُ جَعلَتْ، المتأَخرينَ عَن المرتَبَةِ الأُولى، و كذلك غَيّرِ الفَائزينَ، يتصرَّفونَ وِفْقَ ثقَافَةِ (الفَشَلِ عَارٌ). فبَدأَتْ صَفحَةُ حَربِ تَقاذُفِ، تُّهَمَ التَّزويرِ في نَتائجِ الانتِخابَات.

فبالأَمسِ كانَ الطَّالِبُ الفَاشِلُ، يَقولُ: المُعَلِّمَ يُعاديْني.

و اليَوّْمَ يقولُ مَن حَصَلَ، على أَصواتٍ ليْسَتْ بمُستَوى الطُّموحِ: أَنَّ القَضَاءَ مُسَيَّسٌ، ولا يُنْظَرُ في طَعنِ الطَّاعِنينَ بالنَّتائج.

و بالأَمسِ كانَ الطَّالِبُ الفَاشِلُ يَقولُ: الأسئلةَ جاءَتْ مِن خَارِجِ، مَادَّةِ المَنهَج.

و اليَوّْمَ يَقولُ مَنْ كانَ حَظُهُ، ضَعيْفَاً في نَتائِجِ الانتِخابَاتِ: يوجَدُ تَزويْرٍ في النَّتائج. و هكذا دواليكَ مِنَ الحُجَج.

بِلا شَكٍّ، أَنَّ التَّجارِبَ الدِّيمُقراطيَّةَ، في كُلِّ دُولِ العَالَمِ، تَفْرِضُ وجودَ فَائِزينَ و خَاسرين. و لضَمانِ حقُوقِ الجَّميعِ، وَضَعَتْ الأَنظِمَةُ الدِّيمُقراطيَّةُ، الضَّوابِطَ القَانونيَّةَ الّتي، تَضمَنُ الحُقوقَ للكُلّ، و هذا ما يَحصَلُ في العِراقِ. لقَدّ كانَتْ الانتخاباتُ لهذا العَامِ أكثرَ نُضْجاً و حَدَاثَةً مِن سَابِقاتِها، باستخدامِ أَجهزةٍ الكترونيَّةٍ. كمَا تَمَّ اشْرَاكُ جَميعَ مُمَثلِي، الكيانَاتِ السياسيَّةِ، كمراقبينَ في المراكزِ الانتخابيَّةِ، و مراكِزِ عَدِّ و فَرزِ الأَصوات، عَمَلاً بآلِيَّةِ الشَّفافِيَّةِ الدِّيمُقراطيَّة. إِضَافَةً الى إِشْرَاكِ مُنَظمَّاتٍ عَالميَّةٍ، مُختَلِفَةِ المَشارِدِ و المَوارِد.

أَنَا لا أُنكِرُ وجُودَ مُخالفاتٍ، و هذا يَحدِثُ في الدُّولِ الغربيَّةِ العَريقَةِ، في مَجالِ مُمارَسَةِ العَمَلِ الدِّيمُقراطيّ. لكِنْ القَانُونَ يَضمَنُ الطَّعنَ، في كُلِّ مرحلَةٍ مِن مَراحِلِ، عَمَلِيَّةِ إِجْراءِ الانْتِخابَات. و على الجَميعِ الإِيمانِ، بأَنَّ القَانُونَ هو الفَيّْصَلُ بالموضُوع.

و المؤسفُ أَنْ لا أَحَدَ، مِن المتأَخرينَ في تَرتيبِ سُلَّمِ نَتائِجِ الانتِخابَاتِ، و غيّْرِ الفَائزينَ فِيها أّيْضَاً، يُؤمِنُ بقنَاعَةٍ تَامَّةٍ، بأَنَّ الحَكَمَ هو القَضاءُ و سُلْطَةُ القَانُون. و هذا خَلَلٌ كبيرٌ، في مُتَبنَّياتِ العمَلِ الدِّيمُقراطيّ. فَمَنْ يُؤْمِنُ بالدِّيمُقراطيَّةِ، يَجبُ عَليّْهِ الإِيمانُ بشَكلٍ كامِلٍ، بكُلِّ آليّاتِهَا و أَنظِمَتِهَا و قَوانِينِهَا. و بعكسِ ذلكَ، سنَسْتَمرُّ سَائِرينَ، على مَنهَجِ عَدَمِ الاعترَافِ بالفَشَلِ، و إِعادَةِ اجتِرارِ ثَقافَةِ الدِّراسَةِ الابتِدائيَّةِ، أَنَّ (الفَشَلَ عَارٌ).

و كانَ يَنْبَغي على أُولئكَ المُعتَرِضِينَ، أَنْ يُشَكِّلوا لِجانَاً بَحثيَّةً مِنَ المُختَصِّينَ، ليَدرِسُوا بعُمْقٍ، وَقَائِعَ أَسبَابِ عَدَمِ النَّجَاحِ، و التَّفتِيْشِ عَنّْها بمَوضُوعيَّةٍ صَارِمَةٍ، و إِجراءِ تَحليْلٍ عِلميٍّ دَقيْقٍ، لمعرفَةِ الأَسْبابِ الّتي أَدَّتْ، الى هذهِ النَّتائِجِ السَلبيَّة. و بالنتيجَةِ سَتكونُ الجِهَةُ القَائِمَةُ بالتَّفتِيشِ، عَن أَسبابِ عَدَمِ تَحقِيْقِ الفَوّْزِ، على دِرايَةٍ كامِلَةٍ بأَسبَابِه. و بالتَّالي تستَطيعُ هذهِ الجِّهَاتُ، وضعَ الخُطَطِ اللازمَةِ للتَغلُّبِ، على أَسبابِ الإِخْفَاقِ، و منْعِ تِكرارهِ مُستقبلاً.

بهذهِ الطَّريقَةِ فقَطّ، سَيَرتَقي مُجتَمَعُنَا، إلى ثَقَافَةِ الاستِفادَةِ مِنَ الأَخطَاءِ، و تَحويْلِ الفَشَلِ الى نَجَاح. و تلكَ غايَةٌ لا تُدرَكُ، مَالمْ يَبدأْ أَصحابُ القَرارِ، في الكُتَلِ السِياسيَّةِ، باعتِمادِ مَنهَجِ القَبُولِ، بنتَائِجِ الأَمْرِ الوَاقِعِ، و التَّخلّي عَن أَحلامِ العَظَمَةِ، الّتي تُسْهِمُ في مُضَاعَفَةِ الفَشَلِ مُستَقبلاً. كمَا يَجبُ علَيّهِمْ باعتِبَارِهِمْ، مِنَ النُّخَبِ الاجتِمَاعِيَّةِ، تَعْلِيْمُ عامَّةَ المُجتمعِ، على الالتِزامِ بالقَانُونِ، و الكَفِّ عَنْ كَيْلِ التُّهَمِ جُزَافاً. و اللهُ تَعالى مِنْ وَراءِ القَصّْد.

*[email protected]