19 ديسمبر، 2024 1:48 ص

ثورة 14 تموز 1958 وسيكولوجيا الحنين” النوستالجيا “

ثورة 14 تموز 1958 وسيكولوجيا الحنين” النوستالجيا “

يحتفل العراقيون كل عام وفي يوم 14 تموز تحديدا بذكرى ثورة تموز التي أسقطت الحكم الملكي في العراق, وتثير ذكرى الثورة جدل واسع, وخاصة على صفحات التواصل الاجتماعي والاعلامي بصورة عامة بما فيها القنوات الفضائية التي تقف بالضد او مع هذا الحدث, انطلاقا من رؤى وتجاذبات ومصالح مختلفة لهذا الحدث في تاريخ العراق, وقد تجاوز الاختلاف حول تقيم الحدث المذكور” والذي تم استذكاره قبل ايام حدود المعقول في احيان كثيرة” سواء من طرف انصار الحكم الملكي أو من انصار ثورة تموز ” ووصل في بعض صفحات الأنترنيت حد السب والشتم والغلق المتبادل لصفحات الأصدقاء وانهاء الكثير من العلاقات الاجتماعية عن بعد, مما فوت فرص كثيرة وغنية كان يفترض توظيفها في قراءة الحدث قراءة موضوعية وبعيدة عن التشنجات والرؤى الجامدة لجميع الاطراف, وبما يخدم توظيف الحدث لتشخيص علل الحاضر المستعصية التي يمر بها العراق ويهدد مستقبله. طبعا دون انكار كان هناك العديد من الصفحات الشخصية التنويرية والمواقع الاعلامية المرموقة والتي عكفت على دراسة الحدث دراسة موضوعية وفي اطار زمانية ومكان الحدث وتفاعلاته الوطنية والاقليمية والعالمية. ومما يثير الانتباه والاشمئزاز انظمام بعض الابواق الاعلامية والقنوات الفضائية الى جانب جوقة السب والشتم لأحداث ثورة تموز” واعتبارها يوم اسود في تاريخ العراق” ووقوفهم الى جانب الأشادة بالملكية وهم لم يكونوا يوما من انصار الملكية, بل محسوبين على تيارات الفوضى واللااستقرار والشوفينية في تاريخ العراق عبر عقود.

اذا كانت الشعوب هي التي تزكي أنظمتها أو تحجب عنها الشرعية فأن ثورة تموز 1958 تمتعت منذ انطلاقتها الأولى وحتى نهايتها على يد النظام الأنقلابي الفاشي في 8 شباط 1963 بزخم جماهيري هائل واستعدادات ذاتية للدفاع عنها, ولم يكن موقف الشعب العراقي أنذاك موقفا انفعاليا عابرا بل استند الى مجمل المعطيات الأقتصادية والاجتماعية والانسانية العامة التي كان برنامح الثورة يتبناها ويسعى الى تحقيقها وكانت بمجملها تستجيب لمطالب الشعب العراقي في تحسين ظروف العيش والحياة العامة والسيطرة على ثروات البلاد, بعد أن أخذ الفقر والبؤس والعوز والفساد وتفشي الاوبئة والامراض مأخذه في حياة الناس في الحقبة الملكية, وبالتالي كانت الثورة استجابة لتفاعلات العوامل الذاتية والموضوعية التي وصلت ذروتها في رحم النظام الملكي, ومن اراد أن يقيم ثورة 14 تموز اليوم عليه ان يقيم الحدث ضمن خصوصية الزمان والمكان الذي وقعت فيه الثورة, واعتقد سيسعفنا منهج البحث التاريخي وادواته في وضع الثورة في سياقها الذي نشأت فيه.

وبالمقابل فأن من يمجد الملكية العراقية اليوم عليه أن لا يتأثر بنموذج مملكة السويد أو الدنمارك أو المملكة المتحدة ويتخذها محكات لأضفاء الهالة على المملكة العراقية. اما اعمال العنف والتصفيات الجسدية المنبوذة والمرفوضة انسانيا سواء لرموز النظام الملكي ولاحقا لرموز اول جمهورية فأنها تعبر جليا عن سلوكيات القطيع الخطيرة في المنعطفات التاريخية, واكثرها خطورة التي يغذيها خطاب الثقافة الشوفينية واالعنصرية الذي يشدد قبضة الكراهية واستباحة الدم والتحريض على القتل.

أن مرور 62 عاما على ذكرى الثورة واستعصاء أزمة الحكم وعدم المقدرة على حل المعضل السياسي وعدم وجود انجازات في الحاضر جعل الناس اكثر نكوصا وتقهقرا وعودة الى الماضي للبحث في ثناياه بما يشبع رغبتنا في الانجاز, ولعل الأفراط في الحنين الى الملكية عند الفريق المناصر واعتبار كل ما حصل فيها هو مثالي ويجب استذكاره ايجابيا وتكراره هو مؤشر لأحباطات الحاضر وعدم القدرة على ألتماس أفق مستقبل أفضل. اما الهجمومات على ثورة تموز فهي اسقاط سيكولوجي بأمتياز في تحميل الآخرين فشل المنظومات السياسية التي أتت ما بعد الثورة الى يومنا هذا, حيث خاتمتها الأحتلال الامريكي عام 2003 واسقاط الدكتاتورية عبر الاحتلال والذي اسقط الدولة ومؤسساتها ولم يسقط النظام ومنظومته الأخلاقية” وقد تم بمباركة من يحن للملكية ويشتم ثورة تموز”.

تقييم مصداقية المفاهيم والأحداث تبقى نسبية في اطار البحث عن الحقيقة وتلعب ظروف عصرنا الضاغطه نحو عقلنة الأحداث التاريخيه دورا كبيرا في اعادة تقييم الأحداث.اما ما هو خارج السياق هذا هو اعتبار ثورة” انقلاب” 14 تموز 1958 هو اول محاولة داعشية لقلب نظام الحكم وكأن النظام الملكي لم يشهد انقلابات عسكرية ناهيك عن التعسف في استخدام التوصيف للحدث, هذا النمط من التفكير ذات الأندفاعات المتهوره يحرمنا من الخروج من دائرة التشنجات لفهم الأحداث ووضعها في سياقها الزماني والمكاني الذي نشأت فيه. ادعاء السبق في الوعي وممارسة النقد والنقد الذاتي هو نتاج تحسن ظروفنا الفكرية والحياتية الحاضرة وليست تقدم فطري في بنيتنا الدماغية .

وما هو ضروري التذكير به هو ان النظام الملكي عانى من احتقانات سياسية وتعثرات جوهرية في السير قدما لأرساء ديمقراطية وتعددية سياسية راسخة بل أنه أسس لديمقراطية ارستقراطية, أتهمت في زمن نوري سعيد بالتزوير والتلاعب والتجاوز على ارادة الشعب, الى جانب القمع المستديم لأحزاب المعارضة والحد من نشاطها ومحاربتها, وقد تشكل على خلفية ذلك اجماعا شعبيا وسياسيا خارج السلطة على خلفية استعصاء ازمة الحكم والسلطة وضرورة رحيلها, الى جانب الازمات الاقتصادية والاجتماعية, من فقر وسوء خدمات وبطالة وفساد اداري ومالي لعقود تركز في رموز السلطة الحاكمة انذاك, وبالتالي فقد النظام قدراته الذاتية على التطور والاصلاح الذاتي.

كانت الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية التي جاء بها حكم عبد الكريم قاسم بعد 14 تموز 1958 مهمة في جوهرها وتستجيب لمصالح السواد الأعظم من الشعب العراقي، لكن الرجل فشل في الإصلاح السياسي، إذ لم يكن مهتماً باستيعاب الأفعال السياسية الحكومية والمعارضة في إطار مؤسساتي وحزبي منظم فضاع سريعاً وعده بالانتخابات واستعادة الحياة البرلمانية في بداية 1960 ليصبح الشارع مكان حسم الخلافات السياسية وتحل تدريجيا فوضى الشارع بدلاً من المؤسسات البرلمانية والحزبية, طبعا جرى ذلك على خلفية محدودية التجربة السياسية لرموز الحكم الجديد وانشغالاتهم بعوامل بقائهم واستحواذهم على السلطة بعيدا عن الاستماع الى صوت الشعب وممثليه في ضروروة الحفاظ على الثورة وتطويرها الى صيغ متقدمة افضل” وهنا ارى التذكير بظروف العصر انذاك والعوامل الدولية وصراع الدول العظمى ومفاهيمها المختلفة بطبيعة الأنظمة السياسية التي تختلف عن اليوم”.

اعتقد ان الأجترار في النقاشات حول الحقبة الملكية والجمهورية دون توظيف لها بشكل مثمر لأستنهاض الحاضر المتردي هو جزء من حالات الحنين الى الماضي أو ما يسمى سيكولوجيا وبشكل اوسع هو النوستالجيا, فيتم الأفراط في تجميل الماضي في مواجهة حاضر صعب وقاسٍ، وهذا هو حال الأجيال الأولى من الناس وحتى من السياسيين الذين يستبدلون الحاضر بذاكرة بعيدة لا ترى في الماضي المندثر سوى بديل وهمي لواقع يعجز الفرد عن التعامل معه بإيجابية.

و ان الحنين الى الماضي ” النوستالجيا ” هي الية دفاع يستخدمها العقل لرفع المزاج وتحسين الحالة النفسية، لذا فإنها تكثر في حالات الملل أو الشعور بالوحدة خاصة عن اجيال مختلفة تمر بأوضاع صعبة، أي عند شعور الإنسان بأن حياته فقدت قيمتها وأصبحت تتغير للأسوأ، فيقوم العقل باستدعاء ذكريات الماضي الطيبة بدفئها وعواطفها، فتعطيه تلك الذكريات الدفعة التي يحتاجها للتعامل مع التحديات الحالية, وفي السياسة حيث الأمر اكثر تعقيدا من الحالات الفردية فأن استدعاء حقب تاريخية لأغراض الدراسة والنقد والتحليل يختلف عن استدعائها باعتبارها صح مطلق ولا يمكن المساس به, فأن ذلك لا يسهم باعادة تشكيل حاضر افضل, وهنا تأتي الاستفادة من مراحل تاريخية سابقة باعتبارها دروسا للحاضر والمستقبل.

نحن نحب الحنين للماضي ” النوستالجيا “، ولكنها ليست جيدة كما نظن، وليست سيئة أيضاً, من الأسلم أن نقول إننا جميعاً أو أن معظمنا يتمنى العودة إلى الماضي، وأننا جميعاً مررنا ونمر دائماً بذاك الشعور الذي يشبه مشاعر الحزن والسعادة، كلما زاد رضانا عن واقعنا يقل ذلك الشعور ولكنه لا يختفي, فالنوستالجيا جهاز آخر في أجسامنا يمدنا بالسعادة ولحظات الراحة، ومهما أخذنا منه لا نكتفي، شعورٌ يجمعنا ويربطنا بأشخاصٍ معينين وأماكن دافئة وروائح مألوفة، ” النوستالجيا ” تعطينا دفعة نحو المستقبل وتحسن من حالتنا النفسية وتزيد رغبتنا في التواصل الاجتماعي خصوصاً مع الأشخاص الذين يرتبط الماضي بهم كالأهل وأصدقاء الطفولة، الحنين يجعلنا أكثر أمناً وأكثر دفئاً، فهي إذاً حالة نافعة وليست سيئة أبدا.

في الواقع إن الخطر الوحيد وراء ” النوستالجيا ” او الحنين للماضي يكمن عندما نقف عندها، أو عندما نفهمها بشكل غير صحيح، فنظل نرتدي تلك النظارات الوردية عن الماضي بدلاً من أخذ نظرة جادة عن الحاضر، ونغرق أنفسنا في الماضي ونعيش فيه كوسيلة لتجنب الحاضر، ونرفض الانتقال إلى المستقبل أو إلى كل ما هو جديد لأن الماضي هو الأفضل دائماً وأبدا. فالأزياء القديمة رائعة، والمطاعم القديمة مثالية، والأفلام القديمة هي الأفضل, ونظل نحيي صيحات القديم لمجرد إحيائها وندور في دائرةٍ مفرغة لا نجني منها سوى أننا نفقد التعامل مع الحاضر ونهدم المستقبل.

ومن المخاطر السياسية التي تهدد الحاضر والمستقبل في العراق بعد 2003 أن الكثير من القوى السياسية الحاكمة تلجأ في محاولاتها وسياساتها العامة الى استحضار اشكال من الماضي السياسي والسياسي الديني لفرض اجندة على الحاضر والمستقبل لا صلة لها بالديمقراطية والتعددية السياسية, وهذا جزء من نوستالجيا مرضية. وبقدر ما فشل النظام الملكي في اصلاح نفسه من الداخل, وعدم تمكن ثورة تموز من الانتقال الى اشكال اكثر نضجا في الادارة والحكم السياسي نجد صورة تلك الاخفاقات في عدم تطور ونضج ديمقراطية العراق بعد 2003 ومراوحتها في المكان بل واحتمالات فشلها المطلق. وتبقى الدروس المستخلصة من حقبتي الملكية والجمهورية مادة تاريخية غنية لمن يريد رسم ملامح استقرار افضل لعراق آمن.

أحدث المقالات

أحدث المقالات