من روائع ،علي الجارم، أبياته الجميلة عن “الأعمى الذي يقود بصيرا ” فعندما سافر الى لندن تفاجأ الشاعر والكاتب والأديب المصري ذائع الصيت ، بحجم الضباب الكثيف الذي يعدم الرؤية أمام المبصرين، وبشكل شبه تام ، في وقت لايتأثر فيه المكفوفون بالضباب ، وتراهم وهم يسيرون في الأزقة ، والشوارع كما هو شأنهم في كل يوم ، وبكل أريحية ، ما يدفع المبصرين للاستعانة بالمكفوفين للسير في الطرقات وليس العكس ، وقد نظم الجارم في هذه الظاهرة الفريدة من نوعها شعرا قال فيه :
أبصرت أعمى في الضباب بلندن ..يــمـشـي فـلا يـشـكـو ولا يــتــأوه
فـأتـاه يـسـألـه الـهـدايـة مـبـصـــر …حـيـران يـخبـط في الظلام ويعمه
فـاقـتـاده الأعـمـى فــســار وراءه…أنـىّ تــوجـــه خــطــوه يـتـوجـــه
ولعل ما يحدث في العراق اليوم ، يصدق فيه ما قاله الجارم عن ضباب لندن، مع الفارق بطبيعة الحال ، فنحن نناقش هاهنا – عمى البصيرة – وليس عمى البصر ، حتى لا يتوهم المتوهمون،ولا نظرائهم من عشاق الاصطياد بالماء العكر ، ذاك أن المكفوفين هم أحب ،وأعز ، وأرقى الناس ، وأقول أنه ونتيجة لضبابية المشهد السياسي ، والاجتماعي ، والاقتصادي ، العراقي البائس برمته ، وبناء على واقع الحال المزري،في عالم يعيش صراعات ، وتطورات، وتغيرات،وتحالفات متسارعة ، لا حصر لها الى حد انعدام الرؤية تماما ، صار المبصرون ، يتعكزون على المكفوفين ” وأعني بهم جهلاء ، ومكفوفي السياسة …والاقتصاد …والصحة …والتربية …والتعليم …والزراعة ..والصناعة ..والنزاهة ، والمالية ..وعدد ما شئت ” للوصول إلى غاياتهم ، وتحقيق مآربهم ،وبخلاف المنطقي ، وعلى النقيض من المعقول ، والمطلوب تماما ، وقد قال الشاعر قديما في أمثالنا وأمثالهم ممن تحار في تخبطهم ، وفوضاهم ، وسكرتهم العقول :
أَعمى يَقودُ بَصيراً لا أَبا لَكُمُ …قَد ضَلَّ مَن كانَتِ العُميانُ تَهديهِ
وفيما دأبت البشرية بالحديث عن انجازات قادتها،وزعمائها ، وكبرائها من باب التباهي بالعقول المحلية ، وعبقرية الكفاءات الوطنية ، تجدنا نحن في العراق نتحدث تارة عن ظلمهم،وأخرى عن سرقاتهم فقط لاغير والكل يسأل ،ويتساءل أليس عجبا أن يكون حديث العراقيين وبكل شرائحهم ومكوناتهم ، في مسجاتهم ، وبوستاتهم ، وتغريداتهم ، ونكاتهم وكلها تدور كقطب رحى حول سرقات المسؤولين، وفسادهم ، وإفسادهم ، الا يستحي ساسة العراق هؤلاء ، أسوة بأحزابهم وكتلهم وتياراتهم ، الا يخجلون من أنفسهم ، الا يخشون على سمعتهم ، وسمعة عشائرهم ، وعوائلهم ، وأحفادهم من بعدهم ، ما بالكم يابعض مسؤولي العراق ولا أقول كلهم “أليس منكم رجل رشيد؟” .
أم أن التدجين القهري،والاستئناس الجبري،والتطويع القسري ، الطويل للشعوب ، يجعلها غير قادرة على التمييز بين مطالبها،وواجباتها ،وحقوقها، أم أنهم وكما تقول الحكمة كلما عض الزمان على الناس أخرجوا اسوأ ما فيهم، والأصل هو (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ).
ولعل التدجين الاخباري ، واسع الطيف ، وطويل الأمد ، وبعيد المدى ، يعد من أخطر أساليب تسطيح العقول ، وإعادة تشكيلها ، اذ لا أدري حقيقة الى أية مدرسة صحفية في العالم تنتمي وسائل الإعلام والمحطات الفضائية والبرامج الحوارية ومثلها التوك شو في العراق والتي زرعت في عقول بعض معدي ومقدمي البرامج لديها بأن”طفح المجاري بزقاق سكني ما خبر يستحق النشر والتعليق ؟” ولاسيما في بلد جل مجاريه طافحة، وإن كان لابد فليكن الخبر “عن زقاق لا تطفح مجاريه في العراق على غير العادة ” ، لأن كلبا يعض رجلا ليس بخبر يستحق النشر ، وفقا للقواعد والمفاهيم والمناهج الصحفية ، إلا إذا كان هذا الكلب مسعورا ولا وجود لعلاج ناجع للوقاية من داء الكلب في مستشفياتنا القديمة والتي بناها الماضون ليكتفي اللاحقون بوضع أسمائهم ، وصورهم ، وشعاراتهم عليها فقط لاغير ، أو أن يكون الحبر مندرجا ضمن ظاهرة – الكلاب السائبة – المستشرية في العراق ، الا أن رجلا يعض كلبا ويعقره فهذا هو الخبر ..وبالقياس على ما تقدم مع الفارق ، فإن تعبيد جسر قديم متهالك بني في الحقب والعهود السابقة ، وطلائه ، لا يعد منجزا وخبرا يستحق النشر البتة ..بناء جسر حيوي جديد في منطقة تحتاجه ، ومن غير صفقات فساد ” ولابيع المقاولة 50 مرة ” وضمن مدد الانجاز المحددة له وبنفس المواصفات المكتوبة ، هذا هو الخبر الذي يستحق النشر وقبلها قص الشريط المستورد أسوة بالمقص من الصين لأننا لانجيد – وبعد اغلاق ،وحوسمة ومصادرة ،وتعطيل ، وتفكيك ، مصانعنا ” حتى صناعة مقص فضلا على شريط إفتتاح ..ياقوم !
يا معدي بعض البرامج الاخبارية لقد -هرمنا – بعد أن أهلكتمونا بالجزئيات والفرعيات والثانويات والسطحيات والتوافه ، فهذا ينشر تقريرا عن طفح مجاري في زقاق ما وكأن مشاكل العراق المستعصية لم يبق منها غير مجاري هذا الزقاق الذي لن تجد له أثرا على خارطة العراق ، ولا حتى في نظام التموضع العالمي (جي بي اس )..وذاك يعمل تقريرا متلفزا عن معاملة رسمية متلكئة لمراجع واحد في دائرة ما ، مع أن جل معاملات العراقيين متلكئة ، وجل معاملات العراقيين لا تنجز الا بالواسطة ، أو بالمحسوبية ، أو بالمنسوبية ، أو بدهن السير – الرشوة – …وثالث يعمل استطلاعات للرأي – من كل عقله – عن تذبذب الكهرباء بمنطقة سكنية نائية ، مع أن الكهرباء في كل العراق ، بما فيها العاصمة بغداد والاحياء الراقية ، والمتوسطة فيها مقطوعة أو متذبذبة ، ولا أمل في إصلاحها بعد كم المليارات التي أنفقت عليها هباء منثورا نتيجة الفساد والافساد في الارض وبعضها عن قناعة تامة باعتبار أن مال الدولة من وجهة نظره – الخائبة – والتي أرضعها رضاعة طبيعية وصناعية منذ نعومة أظافره ، هو مال سائب ولا ولي له ، ولا سلطان عليه وبالتالي يجوز نهبه والعبث به ، وسرقته بعد دفع المقسوم ، وبعضهم يسرق من باب ” الإكثار من الفساد للتعجيل بالخلاص ” ، وبعضهم من باب حشر مع الناس عيد ، وبعضهم من باب ” الما يبوك ، والما ينهب ، والما يختلس مو رجال !” وبعضهم ولاسيما من مزدوجي الجنسية والجواز والولاء والتبعية ، لأن القوى الدولية والاقليمية التي جاءت به الى المنصب ، وتقف وراءه تجبره على ذلك ، وبعضهم شعاره ” هي بقت علينه ؟!” .
تقرير تلميذ كسول في مدرسة ابتدائية يتعرض للضرب – وبيش كيلو – بالمسطرة من معلمته اذ ما اكثر ما ضرب التلاميذ بالمدارس على مدار عقود خلت تأديبا لهم ،وحبا بهم ، وليس كرها ، ولا بغضا بهم لتمر الدنيا بعدها بسلام وأصبح هؤلاء من أبرز الشخصيات ، ومن اذكى الاذكياء ، وعلى مختلف الصعد ، وجلهم يترحمون على (المسطرة المحبة) و (المسطرة المؤدبة ) و ( المسطرة المعلمة ) التي جعلت منهم تلاميذ نجباء بحق خدموا البلاد والعباد ؟
أضف الى ذلك أن تكرار المشاكل الجزئية ذاتها يوميا ،أشبه ما يكون بالمتاهة ، ومع توالي الصفعات الحاقدة على خد واحد، ولشخص واحد فإن المستهدف سيدمنها قريبا جدا وفقا لعلم النفس ولن يتأثر بها ، ولن يغضب منها بالتدريج …وأظن هذا ما يريدونه، ويطمحون ، ويتمنون الوصول اليه بحق الى حد الضحك على الجراح والذقون وهذا ما يحدث واقعا ، بمعنى ” تدجين المتلقي ” حتى لايقوى على شيء ولا يطالب بشيء بعدها أبدا .أودعناكم اغاتي