23 ديسمبر، 2024 4:14 ص

ثورة الانترنيت

ثورة الانترنيت

شهدت البشرية في مراحلها المتعددة صدمات اجتماعيه هائلة غيرت بعضها من معالم العالم واستبطنت بعضها الروح التاريخية للإنسان كما يقول هيجل. ولكن لضهور التلفزيون والكومبيوتر والانترنيت ابلغ الاثر في تغيير القناعات وقواعد الفهم العام والخاص. حيث أن شطب المسافات الجغرافية بين الحدث والمتلقي تلاعبت في المعنى الفلسفي للزمن وتساوق الاحداث، وجعلت المستحيلات ممكنة الوجود بشكل لا يصدق. أن هذا التغيير الهائل أحدث زلزالا” عنيفا وقلب ثوابت الفلسفة الإنسانية واليقينيات الى ديناميكيات لا تتوقف من حيث الاستبطان والاستعراض.
فتح الانترنيت جميع أبواب التفاعل مع الاحداث وظهرت مدارس فلسفة الاعلام منها ما يقوم على نشر المعرفة والاخبار بموضوعيه وتجرد وللفرد الحرية المطلقة في اعتناق الأيديولوجيا والفكر، ومنها ما يقوم على أساس الاوليغاركيه الإعلامية التي تؤمن بان الصفوة يجب ان تحتكر الحقيقة وان القيادات هي اعلم بمصلحة الشعب وان الاعلام يجب ان يدار بشكل مركزي موجه كما هو الحال مع الأحزاب القومية والعقائدية.
تعاظم دور الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي في منتصف العقد الأول من القرن 21, حيث اخذت جديا دورا استثنائيا في تشكيل أنماط الوعي الفردي والجمعي، وفي سرعة تدفق المعرفة بين المرسل والمستلم. أن بعض الحكومات العربية برعت في تسويق ايديولوجيتها وتمرير سياساتها بشكل جيد من خلال مواقع ضخمه في التسويق الإعلامي كمواقع الجزيرة على توتير وال فيسبوك غير انها لم تنجح بشكل كبير مثلا في ادامة الصورة المقدسة لأمراء الحرب في أفغانستان وليبيا او سوريا. اما الحركات العقائدية الإسلامية فقد نجحت بشكل منقطع النظير في استقطاب مفاجيء لمختلف طبقات المجتمع العربي، حيث ان بعض الحركات الإسلامية برعت في تسويق نفسها كباعث لكرامة لامه ومسترجع لهيبة المسلمين، حيث طرحت نفسها كبديل معاصر لأليات نشر الإسلام وتكريس وجوده الحقيقي. برعت هذه الحركات في في استخدام الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي الى ادارة هذه الوسائل على يد مهارات احترافيه تفوقت على مؤسسات اعلاميه عريقة في الغرب والشرق وتحولت من التسويق الساذج الى مرحلة الاستخدام الاستراتيجي لأليات للميديا من خلال التحليل الخبري وتضمين الاحداث بذور التوجيه الإعلامي العقائدي ومخاطبة الحشود، حتى وصل الحال الى مرحلة تجييش الوعي الجمعي والرأي العام ونجحت واسقطت انظمه وغيرت حكومات في الشرق الاوسط. 
ساهم الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي في تغيير هائل في البنية السياسة والتخطيط الاستراتيجي للدول، حيث لم تعد اليات الحكم القديمة فعاله مع الشعوب امام التراكم الهائل للمعرفة والفضاء المفتوح، كما ان طبيعة الحكم وعلاقة الحاكم والمحكوم تغيرت جذريا”, حيث دخلت مفاهيم التعددية والحرية والديمقراطية بعد ان كانت مجرد ذكرها يؤدي الى الموت في جمهوريات الرعب. فنشأت الجمهوريات الإلكترونية والتي أصبح بعضها يحرك ويقود الرأي العام. كما ان الفرد أصبح قادرا على النقد المباشر للسلطة وللفعل السياسي بعد ان أصبح الخناق عليه أوسع من ان يخيفه… 
أحدث الانترنيت ومواقع التواصل انقلابا” هائلا” في هيكل التنظيم الاجتماعي وتوزيع الثروة والصلاحيات. فبعد الاف السنين من النظام الكلاسيكي للطبقات الاجتماعية من حيث حيازة المسؤولية ومصدرية القرار وحجم النفوذ والقطاعات التي تتحكم به. حيث كان الملك او الرئيس ومن هو أدني منهم يتحكمون في طبيعة وحركة الموارد البشرية وفق سياسات لا يعرف عنها عامة الناس ألا القليل. في بعض الدول ربما حتى الوزراء لا يعرفون الابعاد الخفية لطبيعة القرارات السياسية للقيادة كما كان الحال مع وزراء صدام حسين حيث ان اغلبهم لم يعرف حتى خطة الحرب في دخول الكويت. اما الان وبفضل الانكشاف الهائل لهيكل الدول وطبيعتها التنظيمية أصبح مستحيلا” ان تعلن خطه في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي في دولة ما من دون الاخذ ينظر الاعتبار ردود فعل الجمهور وقبولهم لها ومجاراتها لمزاجهم العام.
الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي نقل جزء من صلاحيات اتخاذ القرار من المسؤول الى المواطن رغما انف السياسي، وأصبح الراي العام محور حركة القوانين وتوزيع السلطات. ان انتقال السلطة ولو جزئيا” من الهيكل التنظيمي للدولة الى المزاج العام وضع مسؤولية كبرى على الانسان العادي. فلم تعد أنانيتة وثقافته تعنيه هو فقط. بل أصبح مزاجه وثقافته جزء من حلقة اتخاذ القرار ونشاط الدوله العام.
الكلمة المكتوبة هي وجدان حي وتاريخ للذات وصورة للمجتمع والتناقضات والعقد التاريخية اصبحت تحت الضوء والنقد، وأصبح مالا يعرفه الناس في بطون الكتب أصبح يذاع ليلا” ونهارا، فظهرت عيوب المذاهب وآفات العقائد وانفضح رموز التاريخ ولم يعد بالإمكان التستر على رجل قتل رجلا” ظلما قبل ألف سنه. الان اصبح التاريخ بكامله تحت رحمة الانسان العادي. الجميع ينتقد الجميع بلا هوادة ولكن بعضهم يحاول وبمعاول حاده ان يقضم رزانة التاريخ وقدسية بعض رموزه لأجل اهداف غامضه. الجميع يحذر من حماقة التاريخ وصفاقة من استبسلوا ليكونوا ملوكا” وابطالا” فيه بلا مشروعيه. واغلب المحذرين هم من جنس المروجين لعبادة الاسلاف وتقديسهم.
المرحلة القادمة هي مرحلة صناعة الوعي الكوني السامي المطًعم بمقدسات الاديان جميعا” والمحلى بنكهات الفكر وميثولوجيا أمم الارض. وعلى العرب ان يبادروا في توليد اليات معاصره ترفع الوزن النوعي للفرد العربي وتضع اسهامه الإنساني بموازات الأمم الأخرى. ان البكاء على الاطلال و(ليس بالإمكان أفضل مما كان) يجب ان تزول من قواميس العرب، الزمن أصبح أغلي من الذهب في التقييم الاستراتيجي للشعوب ومن يبقي عقله في المقابر متوسلا موائد الازدهار لن ينال الا التراب، لان صناعة الحياة في ديناميكية الحركة والتوازن مع الاخر في حدود حرية الفرد مع الجماعة. وأن صناعة الذات من خلال الاستخدام الامثل لمعطيات العصر. لا يكفي اللوم واللعن من ان يُخلي مسؤوليتنا امام مصيرنا ومصير الاجيال القادمة. فالمواطن البسيط أصبح يتحمل مسؤولية التغيير من حيث تحوله الى أيقونة التغيير.
[email protected]