23 ديسمبر، 2024 7:01 ص

ثنائية الشعب والحكومة .. من يتكئ على من ؟

ثنائية الشعب والحكومة .. من يتكئ على من ؟

تتوالى الاجراءات يوماً بعد آخر بحمية غير مسبوقة ومتسارعة نحو المزيد من فرض الرسوم وزيادة الاجور على تنوع اشكال الخدمات المتواضعة اساساً وكل ما من شأنه جباية القرش الابيض لليوم الاسود الحكومي لكن نقطة الصفر هو الشعب المبتلى بالوان المحن في هذه المعادلة المجحفة.
فرمانات الرسوم والاجور تتوالى بوتيرة متصاعدة صادرة من وزارات ومؤسسات وجهات حكومية شمرت ساعدها لتحقيق الحملة استناداً الى المادة (25) من موازنة عام 2016 التي نصت على:- (للوزارات كافة والجهات غير المرتبطة بوزارة والمحافظات صلاحية فرض رسوم او اجور خدمات جديدة وتعديل الرسوم واجور الخدمات الحالية باستثناء الرسوم السيادية على وفق تعليمات يصدرها الوزير المتخصص او رئيس الجهة غير المرتبطة بوزارة او المحافظة لغرض تغطية النفقات والمستحقات السابقة لنفس الوزارة او الجهة). والمادة واضحة ولا تحتاج الى عناء التفسير ، لعلاقتها بجباية الاموال !. لكن موضوع هذه التراجعات المتوالية في ظل ظروف معيشية صعبة وقاهرة واوضاع تفتقر الى توازنات محسوبة على مستوى الدولة والمجتمع تنتج قلقا مستقبلياً مشروعاً، ثمة بعض قد يراها ضرورة تقتضيها ظروف وملابسات وازمات مالية ماحقة ومحدقة بسبب هبوط اسعار النفط في السوق العالمية واعتماد اقتصاد البلاد الريعي على النفط من دون سواه ، دون ملاحظة حقائق الواقع الموضوعي المؤثر في اتجاهات الاحداث ، خاصة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد .
اولى هذه الحقائق غياب البرامج الاستراتيجية في البناء الذي يتيح تغيير خارطة المواقع الاجتماعية وتقليص نسبة الفقر والفاقة والنهوض بالمجتمع فالمعروف ان اول خطوة في سلم البناء الديمقراطي تقتضي ازالة التناقض بين البناء الاقتصادي والبناء السياسي لتوفير التقدم ذلك ان انسجام البناءين لا يتم الا عبر ترسيخ القواعد الديمقراطية واسقاط اية هيمنة ما عداها. وبالنظر الى واقع البلاد خلال اكثر من عقد يتجلى بوضوح سوء الادارة وضياع التخطيط وغياب برامج التنمية الاقتصادية
والبشرية برغم حاجة البلاد الاساسية لذلك واستفحال آفة الفساد التي نخرت اجهزة الدولة وطبعتها بطابع الفساد الكريهة التي ادت الى ضياع تخصيصات بمليارات الدولارات في مشاريع ليس للبلاد فيها سوى الاسم وبالنتيجة كانت تلك الاموال والمقدرة بالف مليار قادرة على بناء قاعدة اقتصادية متينة تحل مشكلات البلاد وتكفل برفع المستوى المعيشي وتؤمن طريق الأمان في وعورة طرق هذه الازمة المالية الدولية الناشبة . وتحصيل حاصل فقد انتفع الفاسدون على حساب رمق الشعب العراقي المحاصر باسباب الجوع والفاقة اكثر من أي وقت مضى!. سلسلة التراجعات على تعدد الصعد في عراق ما بعد الدكتاتورية وصمت تاريخه السياسي المعاصر بالأسوأ في مرارته وانجازاته. فالسجل التاريخي لتعاقب حكوماته يشير الى افتقاره لانجازات حقيقية برغم توفر الاموال الهائلة لاية مهمة .
واضافت احباطا آخر لمسار العهود الجمهورية المحبطة وباستثناءات قليلة وتم الاجهاز على البقية الباقية من ميراث الدولة العراقية الايجابي الذي بدا واضحاً ليتميز العهد الجمهوري حتى الآن بقبر الانجازات السابقة خاصة في العهد الملكي سواء ما كان منه مرحلياً ام استراتيجياً تلك التي نفذها (مجلس الاعمار) المحمود الذكر انذاك.
وثاني الحقائق ان جملة الاجراءات التي قامت بها وزارتا الصحة والتجارة وقبلها اجراءات خصم نسبة من رواتب المتقاعدين المنهكين انما تعني بحقائق الاشياء والواقع التأثير المباشر في المستوى المعيشي للمجتمع في ظرف غير مناسب له.
لأن شرائح المجتمع وفئاته العديدة تعاني اساساً من ضيق اليد لغياب برامج التنمية البشرية والمجتمعية على مدار حقب طويلة بما فيها ما بعد التغيير عام 2003 والقاء نظرة فاحصة على تراتبية الهموم والكوارث في البلاد تعطي صورة اكثر مصداقية للوضع، فالبلاد تحفل بأكثر من 40% ممن هم تحت مستوى خط الفقر بحسب تقديرات المنظمة العالمية وقد تضاعفت النسبة خلال العقد الاخير الى جانب ملايين من الايتام والارامل واذا ما اضفنا لهم المرحلين والنازحين لوجدنا ان الوضع لا يطاق بحسابات الاشياء ودقتها.
ان صعوبة الحال هذه لابد ان تدعو الحكومة الى تحمل مسؤولياتها الاخلاقية والقانونية في اتباع وسائل اخرى ملائمة مثل ترشيق هيكليتها التي تعج بآلاف المستشارين والوكلاء والمدراء العموميين وسلسلة طويلة من المناصب والدرجات الخاصة الذين بكثرتهم لا نفع يرتجى من ورائهم . الم يحن الوقت لتسريحهم.
ان المبالغ التي ستتوفر من خطوة كهذه اكثر بكثير من تلك التي يتم استقطاعها من رمق اولئك البسطاء الذين تخل الاستقطاعات بتوازنات كثير منهم اجتماعياً ومعيشياً وتخلق تداعيات لا حصر لها وذلك ما ينبغي استدراكه بحسابات العواقب. ان عزل الفاسدين وغير الكفؤين بات قضية ملحة تمليها متطلبات ظروف البلاد الواقعية وتصفية التأثيرات السيئة لهؤلاء على حركة البلاد والمجتمع. وبرغم كثرة ملفات الفساد والاعلان عنها الا اننا لم نر فاسداً واحداً احيل للقضاء. وهو مما يستدعي ايضاً انتفاء الحاجة الى هيئات النزاهة وغيرها لرمزية وجودها وضياع تأثيرها حيث يمكن الاستفادة من الاموال المخصصة لها في تجاوز الازمة. ان الاموال العراقية المهربة والكثير من المشاريع غير المنجزة تستطيع الحكومة مقاضاتها دولياً ومحلياً وان تلجأ الى الوسائل التي تمكنها من اعادة الكثير من الاموال في هذا الظرف الصعب وهذه الاموال هي فرص الشعب المضاعة لحساب وضعه ومستقبله. ثالث هذه الحقائق المعاناة المستديمة للبلاد والعباد التي لا تترك مجالاً للمزيد من الاحتواءات الجديدة الضاغطة فالعراقيون عانوا كثيراً من ويلات الحروب وآلام تداعياتها الخطيرة فضلاً عن تجلياتها المختلفة على الصعد كافة خاصة الحصار الاقتصادي بعد حرب الخليج الثانية وما خلفه من اثار تدميرية اضاعت معه الفرص الحقيقية للتقدم فيما تعرض المجتمع الى حملة افتقار منظم واستلاب معيشي وجد نفسه في الهزات العميقة في الميادين الاجتماعية التي اخلت بالتوازن وبمنظومة القيم الاجتماعية والاخلاقية.
لقد خلقت التعقيدات والازمات المستمرة الطاحنة احباطاً ويأساً لدى المجتمع الذي آلمه كثيراً تحول البلاد الى جحيم لا يطاق كان من نتائجه فرار الملايين من ابنائه. وبدلاً من معالجة هذه الآثار الخطيرة خلال المرحلة الماضية حيث توافرت الظروف لمعالجتها والخروج منها بأفضل النتائج تركت الامور على الغارب وتعقدت بآثار
جديدة قد تفرض حالات غير محمودة في ظرف يستدعي التماسك والوحدة المجتمعية. شهدت مرحلة السنوات الماضية بعد التغيير تعاظم غول الفساد وغياب المصالح العامة وتنامي المصالح الشخصية والاهواء التي عكرت المزاج العام وتفاعلية اندماجه بمشروع البناء الجديد المفترض .
ان غياب الاطر العامة لطبيعة التجربة السياسية الوليدة وعدم بناء مشتركات بين مختلف القوى السياسية وظهور انعدام الثقة بين الشركاء وحالات الخلاف والاختلاف وعدم العبرة من دروس الماضي القريب جر التجربة الجديدة الى ضفاف حزينة ورافق ذلك كله عدم جدية الشروع ببناء البنية التحتية واستكمال تنمية البلاد باعادة تأهيل مرافق الصناعية والزراعية وانهمك الفاسدون بنهب البلاد وهذه القت بظلالها على مجمل المشهد السياسي ومهدت لتطور حركة الحراك الشعبي المتخذة لمظاهر الرفض والاحتجاج حيث لا تزال المظاهرات مستمرة بمواعيدها الاسبوعية المعهودة فضلا عن مظاهر الاحتجاج الاخرى في المحافظات. الاحتجاج بشكل عام عامل مؤشر الى خلل ومشكلات ومؤثرات ولابد للحكومة ألّا تشيح بوجهها عنه فالجماهير تستقرئ بأحساسها المعنوي ومنطقها الذاتي سبل الحقيقة وهذه الحقيقة برغم انها تقريبية الا انها موضوعية بشكل عام وناجحة عندما تتخذ شكل الرفض. وازاء واقع يسوده الاحتجاج لابد من التعامل العقلاني المستند الى رؤية واقعية للتعامل مع الوقائع والاحداث فالبلاد لا تحتاج الى المزيد من الضغط في اجوائها الملبدة خاصة وهي تخوض حمى تحديات ومجابهات جمة. في اقليم كوردستان حيث الظروف الاقتصادية الصعبة بسبب امتناع الحكومة الاتحادية عن ارسال مستحقات الاقليم من الموازنة العامة وكذلك مستحقات البيشمركة التي تخوض مجابهة ضارية ضد الارهاب الداعشي وتسجل قصص انتصارات كل يوم في غمار ذلك كان هناك قررات شجاعة ورشيدة في معالجة الازمة حيث عمدت حكومة الاقليم الى تقليل الاسعار لمختلف السلع فضلا عن تخفيض الايجارات والاستحقاقات الاخرى لتمكين المواطنين من تجاوز الازمة والتجاوب مع المساعي الجمعية بما يحمي المواطنين واسرهم .
وقد شهدت السنوات الماضية حملة بناء على كل الصعد وضعت الاقليم في موقع متقدم اختيرت على اساسه العاصمة اربيل عاصمة للسياحة .
واخيرا اين نجد الحكومة في ميزان التعريفات الحقوقية في قضية الاستقطاعات والضرائب والرسوم حيث يعرف أصحاب القانون والمال الضريبة بوصفها مبلغا ماليا تتقاضاه الدولة من الأشخاص والمؤسسات بهدف تمويل نفقات الدولة. أي بهدف تمويل كل القطاعات التي تصرف عليها الدولة كالتعليم متمثلا في المدارس ورواتب المدرسين والوزارات ورواتب عمالها وصولا إلى عمال النظافة الحكومية والسياسات الاقتصادية كدعم سلع وقطاعات معينة أو الصرف على البنية التحتية كبناء الطرقات والسدود أو التأمين على البطالة. في الأنظمة الديمقراطية يتم تحديد قيمة الضريبة بقوانين تتم المصادقة عليها من ممثلي الشعب. وعادة تعهد وظيفة جمع الضرائب وتوزيعها بين القطاعات المختلفة إلى وزارة المالية بعد تحديد الميزانيات. إذ تنص الكثير من القوانين في عديد من البلدان على أن الضرائب مبلغ مالي تطلبه الدولة من الذين يتحقق فيهم شرط دفع الضريبة وذلك بدون أن تترتب للدافع عن ذلك أية حقوق مباشرة. أي أن شركة تدفع جباية مثلا لا يمكنها أن تعتمد على ذلك لتطلب من محطة حافلات لعامليها قانونا. استنادا الى كل هذا فهل ستنطبق آليات التعريف القانوني على الحكومة العراقية لا سيما بعد ان أضاعت ميزانيات كبرى تفوق الألف مليار دولار من دون ان تحقق أية مكاسب واقعية على الأرض لدولة الفقراء سوى الوعود المعسولة . شهدت الحكومات السابقة بداية التأسيس للفساد المالي متجاوزة فساد اعتى الدكتاتوريات العالمية وكانت بمثابة الخراب الكوني للعراق حيث أسهمت في كل مناسبة او بغيرها في التسبب بالألم والموت والجوع والتشرد والفقر والعوز . فمن يتكئ على من ؟!.