سأتكلم بصراحة تامة سيدي القاضي واطلب الى محكمتكم الموقرة عدم مقاطعة الحديث او ارغامي على انهائه وها انا اطلب الاذن في ان أبذء حديثي.
كانت تتكلم بصوت عذب وهي تختار كلماتها لتقولها بنبرة هادئة تعكس الاطمئنان النفسي للمتحدثة وكان القاضي ينظر اليها مليا ليسبر غورها ويحدد امكانية اجابة طلبها الذي لم يسبق له ان طلب منه, وبعد فترة صمت امتدت للحظات اشار بالموافقة على اجابة طلبها فتحدثت قائلة:-
سأبدئ من اول يوم تعرفت فيه الى هذا الرجل واشارت الى شاب لم يتعد عقده الثالث بدى وسيما وفارعا لكن في نظراته الكثير من الحزن وكان قد انحنى امام القاضي لينوه عن وجوده.
وعادت الانظار نحو المرأة التي لم تتوقف عن حديثها :هو يتصل بصلة قرابة من ناحية ابي على ان تلك الصلة لم تكن متوطدة في يوم ما ولم اذكر انه اواحد من اهله زارنا او قمنا نحن بدورنا بزيارة له حتى عندما كنا ندرس في جامعة واحدة وفي مرحلة واحدة كنت اشعر انه يتحاشى اي تقارب او حتى مجرد الحديث العابر فأنا اذ ذاك كنت ممن يخشى التقرب اليها كوني ابنة احد المناضلين المناوئين للسلطة بل هو وفي اكثر من حادثة كان ينكر اي صلة قربى بيننا.
وارتعشت اعضائها فيما كانت دمعة ساخنة اوشكت على الانحدار فتلقتها بمنديل ابيض ناصع وانقطعت عن الكلام للحظات ريثما تمالكت نفسها فقالت والحزن يملئ نفسها ابعت كلامها لم يقف الامر عند هذا الحد بل هم لم يكلفوا انفسهم حتى بمجرد المواساة او الحضور للمأتم الخاص لوالدي الذي قضى شهيدا بعد تنفيذ حكم السلطة بإعدامه ويعلم الله تعالى مرارة تلك الايام وجور الزمن حتى اننا بتنا مشردين ليس لنا من مأوى حين وضعت السلطة يدها على ممتلكات والد الشهيد وسلبته امواله المنقولة وغير المنقولة .
تنهدت بعمق ورفعت بصرها الى القاضي ..هل من الممكن ان يعتبر قريبي هذا وارثا شرعيا يشاركني ووالدتي ارثنا الذي اعادته لنا الدولة بعد نهاية ذلك العهد. …؟
لم يستطع القاضي او اي فرد من الحضور ان يرد عليها بكلمة لأنها اصابت كبد الحقيقة فماذا تعني القرابة وماذا تعني صلة الرحم ان كانت النفوس تتنكر لمن يتعرض الى فوادح الامور او فاجعات المصائب .
امر واحد نطق به القاضي قائلا:- ما تفضلت به هو حقيقة لا مفر منها لكن حكم الشرع والقانون هو هذا وليس لنا ازاء ذلك الا تطبيق الحكم فهو وريث شرعي شئنا ام ابينا…؟
اذ ذاك تحرك الشاب تعلو وجهه ابتسامة عريضة هي ابتسامة النصر المؤزر وان لم يكن له ذلك .