استيقظ مواطنو روسيا والجمهوريات السوفيتية صباح التاسع عشر من اب / اغسطس1991 على القناة التلفزيونية الاولى ( اوستانكينو) تبث باليه بحيرة البجع لفرقة بولشوي تياتر.
لقد اعتاد الجمهور في السنوات الأخيرة على ان بث الموسيقى الكلاسيكية، خارج أوقات البرامج المخصصة لها؛ يعني ان احدا من كبار رجالات الحزب والدولة قد ودع الدنيا الفانية.
ولم يخطر على بال الناس، ان بحيرة البجع كانت إشارة البدء لعملية قلبت الإتحاد السوفيتي واستطرادا العالم راسا على عقب.
كما لم يتوقع أحدٍ ان ميخائيل غورباتشوف البالغ انذاك الخمسين بزيادة، قد فارق الحياة. لكن من غير المستبعد ان واحدا من كهول المكتب السياسي كاندريه غروميكو ؛ وزير الخارجية العتيد، قد فارق الحياة.
ولم يمض وقت طويل، حتى طارت بجعات جايكوفيسكي من الشاشة الزرقاء، ليظهر وجه المذيعة المخضرمة فيرا شبيكو تتلو. بهدوء تقليدي، بيان لجنة الدولة للطواري؛ تحت عنوان بيان القيادة السوفيتية بتسليم صلاحيات الرئيس ميخائيل غورباتشوف الى نائبه غينادي يناييف لأسباب صحية .
ويعدد البيان الاسباب الموجبة للحفاظ على وحدة الدولة، ووقف الفوضى التي تضرب أطنابها في البلاد ومنع الانزلاق نحو الكارثة الشاملة وتحديد الإجراءات الكفيلة بحفظ الأمن وفرض نظام الطواريء لمدة ستة أشهر في بعض المناطق عند الضرورةً.
وصدرت أوامر باغلاق بعض الصحف والوكالات والاذاعات؛ وقضت بأولوية القوانين الفدرالية على قوانين الجمهوريات. وتعهدت اللجنة بحلول عاجلة وسريعة في غضون أسبوعين للحد من غلاء المعيشة وزيادة الرواتب والاجور والرواتب التقاعدية ومنح كل مواطن قطعة أرض بمساحة 1500 متر، وغيرها من الوعود التي قالت بيانات اللجنة إنها تهدف الى تعميق الاصلاحات ووضعها على الطريق الصحيح.
ونقلت القناة التلفزيونية الاولى ذلك اليوم ، في نشرة الساعة التاسعة مساء( فريميه ) ردود فعل الشارع المؤيدة والمعارضة لقرارات لجنة الطواريء.
وحرص المراسلون، وغالبيتهم من الجيل الجديد؛ الذين أطلق لهم غورباتشوف العنان في معالجة ملفات كانت محرمة؛ حقبة بريجنيف، وبرزت في الفضاء الاعلامي؛ محدود الأفق ، بفعل الرقابة الصارمة للمنظمة الحزبية، أجواء لم يألفها الرأي العام السوفيتي المحافظ، وفي غضون شهور من سياسة
” غلاسنوست-الشفافية” ظهرت عنوانين وأسماء جديدة، غدت لاحقا ادواته تحطيم التابوات، وخصخصة وسائل الأعلام، والتورم السرطاني للقنوات الفضائية والاذاعات التي تبث على موجات FM؛ وغيرها من التحولات الخطرة في الإعلام الناطق باللغة الروسية.
وفي يوم إعلان لجنة الدولة للطواري حرصت القناة التلفزيونية المركزية على نقل صور حية لأعداد غفيرة احتشدت أمام مبنى مجلس السوفيت لروسيا الاتحادية، الشهير باسم “البيت الأبيض”، مقر بوريس يلتسين وأنصاره .
وظهر يلتسين محاطا بحراسه يلقى بيانا من على ظهر دبابة، يشجب الانقلاب، ويعلن ربط الأجهزة الأمنية والقوات العسكرية في روسيا، تحت امرته، ودعا الناس الى تشكيل درع بشري لحماية ” الديمقراطية”. وتاسيس ” حلف معاد للشيوعية”.
وقوبل خطاب يلتسين بالهتافات المؤيدة، بينما كانت تتدفق اعداد جديدة من المعتصمين نحو ساحة أطلقوا عليها فورا اسم ” ساحة الحرية”.
فتح “البيت الابيض” كل مداخله امام الصحفيين الاجانب، وكنت منذ الصباح الباكر وبعد سماعي البيان أتنقل بين المركز الصحفي لوزارة الخارجية السوفيتية، ومقر مجلس السوفيت لجمهورية روسيا الاتحادية ( البيت الابيض).
و تولد لدينا الانطباع؛ بان عملية يائسة نفذها قياديون متشددون: لا يتمتعون بالكفاءة ؛يقودهم رئيس جهاز أمن الدولة الذي لا تنم تصرفاته وأفعاله عن ذكاء؛ مصيرها الفشل. وان المد الشعبي العارم لمجاميع من المواطنيين المحبطين، يتحركون بهمة ونشاط؛يطوقون “البيت الأبيض” بحواجز؛ و على أستعداد لمواجهة القوات التي من المفترض؛ حسب الخطة ان تخلي المبنى من المتمردين على قرارات لجنة الدولة للطواريء.
وقام عمال بناء محتجون على الانقلاب؛ بانزال موانع صخرية ضخمة من رافعات، فيما تطوع سواق شاحنات وباصات نقل الركاب الحكومية بقطع الطرق المؤدية الى المبنى بحافلاتهم ، وبات من شبه المستحيل على القوات الأمنية او الجيش الوصول؛ بدون إزهاق ارواح مئات او ربما الاف الارواح.
ولم تصدر عن قادة ” الحركة التصحيحة” إشارات او تصريحات تنم على انهم متعطشون للدماء؛ او انهم مستعدون لإدخال الدولة النووية العظمى في حرب اهلية، حتى وان بدأت تحتضر على يد غورباتشوف ومن يقف معه.
أخبرني غينادي يناييف القائم باعمال رئيس الدولة نيابة عن غورباتشوف:
“لقد قمنا بعمل غير مدروس اخرق. واعتقد ان غورباتشوف ورطنا ثم تخلى عنا” .
وكنت التقيت يناييف بعد خروجه من السجن وسجلت معه على مدى ساعات تفاصيل ما جرى في مقابلة نشرتها على حلقات في جريدة “الرأي الاردنية” حينها.
يتبع …