منذ القدم وكثوابت سايكولوجية فان ابن المدينة ينبهر بالريف ويتشوق ان يزوره في المناسبات، وقد كنا نأتي من بغداد في سنوات الطفولة مع ابينا عندما كانت بغداد (كإسطنبول اليوم) قبلة للسياح ومنظرا من مناظر الجمال والنظافة والاناقة بنهرها المنساب المترع وبشوارعها الرشيقة الملونة وجسورها وجامعاتها واناقة اهلها واسواقها .
فكنا نترك كل ذلك ونذهب فرحين متشوقين الى ارياف الرضوانية في اطراف بغداد او احيانا للقرى والاراضي الزراعية التي يسكنها اقرباؤنا واصولنا العشائرية في القرى المحيطة بمدينة الفلوجة انطلاقا منها لنتمتع بالخضرة والبساتين ومياه الجداول حتى اجبرنا ابينا ان يخصص ارضا بمساحة 300 مترا من بيتنا ببغداد ليجعلها بستانا صغيرا الى جانب البيت ، قبل ان يتحول لاحقا بفعل حاجة العمل -للأسف- الى مرآب لإدامة المكائن الثقيلة التي كنا نملكها كمورد رزق.
و كذلك القرويون وابناء الريف يتوقون لزيارة المدن ليهربوا من المنظر الزراعي المكرر لديهم فيقصدون المدينة ليروا الاسفلت ويتمتعوا بمنظر الكونكريت والجسور والبنايات الشاهقة وما الى ذلك مما نحن هاربون منه ، فلاتجد قرويا يشد الرحال ليدخل متنزه الزوراء او مزارع الرضوانية وابو منيصير وانما ليرتاد الأسواق الكبيرة والمسارح او الشوارع والاحياء البغدادية الراقية والمحلات في المنصور والكرادة وشارع الرشيد وغيرها .
وهكذا بقية المدن واريافها في كل البلد وكل بلاد في حركة يومية عكسية والسبب هو ان يغير كل من الفريقين مناظره وروتينه وهذه سنة الحياة فكان اقرباؤنا واصدقاؤنا من الارياف يزوروننا في المدينة كل حين فرحين متحمسين.
ولذلك وللحرص على تطعيم المنظر والتنويع وتنقية الهواء فقد كان القائمون على ادارة المدن يهتمون جدا باستغلال كل مساحة بين الشوارع وتحت الجسور وفي باحات البيوت وجوانب الطرق لزرع الاشجار والورود والحشائش وبجانبها نافورات الماء وهكذا.
وهذا سببه انهم كانوا مدنيين في النشاة والدراسة والرغبات والهوايات.
ولكن عندما تطورت الامور بطريقة فوضوية غير مدروسة وانتقل اغلب الفلاحين الى المدن تاركين مزارعهم للهوام وعوامل المناخ والجفاف دون حساب. وعندما اصبح القائمون ومديرو دوائر البلديات في المدن ورؤساء الدوائر الاخرى المسيطرة على حكم المدينة ومواردها وادارتها من اصول قروية اغلبهم، ظنوا ان اجمل شيء يخدمون به تلك المدن هو صب الكونكريت في كل مكان ونشر الاسفلت ورصف المساحات الشاسعة مابين الشوارع وعلى جوانبها والازقة بالمقرنص والحجر والسيراميك ، وراحوا يتفنون ويصبغونه الوانا وهم يظنون انهم يحسنون صنعا ، فتلك هي احلامهم في الصغر ان يروا المدينة المتخمة بالكونكريت والمقرنصات ،ولاغرابة في تصرفهم ولالوم ولكن لابد ان يكون معهم على هيئة لجان احد ابناء المدينة من مهندسيها او مدرائها ليذكرهم ويشد على ايديهم ويبارك نشاطهم هذا بالافضل والاصلح ، فالمدن بحاجة الى المساحات الخضراء ، فقد جردوا المدينة من كل معلم اخضر وسلخوها من كل شجرة او وردة وصارت مصحرة تكوي اهلها اشعة الشمس وتحرقهم لواهب الرياح الجافة الساخنة ويغطيها التراب والغبار كل يوم ،
وكل يعمل على شاكلته .