رغم كثرة الفشل, وتزايد الفساد والمفسدين , ورغم كثرة الفضائح السياسية وتعددها والوانها, مازال المسؤول العراقي لا يفهم معنى الاستقالة , أن الوزير السياسي هو المسؤول عن كل ما يجري في وزارته، ولا يتهرب من المسؤولية لأي سبب كان، وعند حصول خطأ ما في حدود سلطاته فيجب عليه هو، وليس غيره، أن يتحمل المسؤولية السياسية والأدبية ويقدّم استقالته من منصبه، فهذه ضريبة أن تكون وزيراً سياسياً، أن كلمة السر في الموضوع كله هي المسؤولية,
إذن المسؤولية السياسية ليست سهلة، والمنصب ليس تشريفاً، والتعهدات التي يطلقها المسؤول حين تسلمه المنصب ليست مجرد كلمات مستهلكة ينساها بعد حين، أن الكلمة مسؤولية، وهذه الكلمة هي سبب استقالة (يوكيو هاتوياما) رئيس وزراء اليابان (حزيران 2010) لأنه لم يستطع الإيفاء بالعهد الذي قطعه للناخبين بنقل قاعدة أمريكية في جزيرة (أوكيناوا) من مدينة (جينوان) إلى منطقة (هينوكو)، رغم أنه لم يستلم منصبه إلا قبل (9) أشهر فقط! (تذكروا معي الكمْ الهائل من الوعود التي أطلقتها النخبة الحاكمة ولم تلتزم بها، والمفارقة أن الشعب أول من نساها ولم يحاسبهم عليها، بل أعاد انتخابهم مرة أخرى,
المسؤولية السياسية ونتيجتها الإستقالة في غاية الأهمية وتضع المسؤول الأول على المحك دائماً، وتعتبر أنه المسؤول عن كل ما يجري في حدود سلطاته، وهي ثقافة سادت في الكثير من المجتمعات ولكنها غائبة عن مجتمعنا العراقي، فمن النادر أستقالة مسؤول بسبب خطأ وقع في القطاع المؤتمن عليه، رغم كثرة التجاوزات والأخطاء والفساد، فالمسؤول الأعلى يرى الكارثة تحدث ويعرف تماماً أنها من ضمن اختصاصه، وهي نتيجة فساد أو سوء تخطيط أو إهمال، ومع ذلك لا يتحمل المسؤولية بل يتجاهل الكارثة أو يبررها، وفي أحيان كثيرة يتم تحميل المسؤولية إلى صغار الموظفين ليكونوا كبش الفداء لأخطاء المسؤول الكبير, مواقف لا نراها إلا في بلاد سادت مجتمعاتها قيم الحرية ، والانتخابات الحرة ، وثقافة المحاسبة ، وعدم السكوت على الخطأ ، ولفظ المسيء ، عن طريق حجب الثقة عنه واساقاطه في أول فرصة تمُكن المواطن من أداء دوره الذي يراه واجباً يجب القيام به ، وليس ترفاً من أمور الحياة الخاصة, أمثلة كثيرة يمكن ذكرها بدأ من الزعيم الفرنسي ديغول القائد المظفر الذي حقق الاستقلال لبلده لكنه يستقيل ، رغم التأيد الشعبي له ، لأنه رآه ليس بالتأيد الكاف الذي يستحقه ، فقال كلمته المشهورة ” أنا ذاهب الى بيتي اذا ما احتجتموني تعلمون أين تجدوني ,, رئيس الوزراء الياباني رغم فوزه وهو في قمة انجازاته يتقدم بالاستقالة ويختار التنحي لأنه يرى ضعف بهمته وتراجع بنشاطه فيقول “إن اضطراري الى العمل بجدية أكبر جعلني أشعر بالقلق لأنني لم أعد أستطيع ذلكولنا أن تتصور زعيم عندنا أو أنصاف زعماء بل على مستويات أقل بكثير ولم يكن وصولهم لمناصبهم أصلا شرعيا عن طريق الانتخابات ولم يكن لهم أي نجاح أو أنجاز وهم يدافعون وبل ويقاتلون من أجل البقاء بمناصبهم
ثقافة الاستقالة هذه لم تأت من فراغ أو كرم وتفضل من المستقيلين، بل هي قيم وعرف وأخلاق غير مكتوبة من العقد الاجتماعي بين شرائح المجتمع تحميها المواقف الشعبية التي تلقظ كل فاسد و ترفض كل مسيئ له, ثقافة الاستقالة تجذرت عند تلك الشعوب منذ عقود بعيدة ، جعلت كثير من المسؤولين يستقيلون ويخرجون من الحياة السياسية لأسباب تراها شعوبنا تافهة وثانوية وشيء من الترف السياسي أو النرجسية والمثالية الزائدة بينما هي عندهم خطوط حمراء لا يجوز تخطيها وقيم لا يمكن التساهل بها, عندما يتخلى المجتمع عن المحاسبة ، وتسكت النخب عن المسائلة والنقد والصدح بالرأي ، لن تسود مثل هذه الثقافة في مجتماعتنا العربية ، وسيظل المخطئ والمسيئ والفاشل يجد من يرقع له سقطاته ويبرر له اساءاته ويجُمل له انحرافاته, المشكلة ليست هنا ، بل بمن يدافعون عن هؤلاء وينافحون عنهم من حملة أقلام وكتاب وأعلاميين وأصحاب رأي وتأثير على المجتمع من النخب وأهل الحل والعقد ، وتمتد المصيبة لتشمل الشعوب الغير آبهة بما يدور حولها ولا تتاونى عن التصفيق والتهليل , هذه الظاهرة الفاسدة حالة الشعوب المقهورة ومنها شعبنا التي لا تجد حيلة للانعتاق منها
في ظل النظام السياسي الحالي , رشاوي وسرقات القرن وغيرها واختلاس اموال الشعب وشبكات تنصت وفوضى سياسية في كل الارجاء , ومسؤولين لايجدون حرج بالبقاء بالسلطة والاستمرار بالحكم بدون أي شعور بالأثم وعذاب للضمير, واسباب كثيرة وراء هذه الظاهرة السلبية من التشبث بالمركز والمنصب ورفض ثقافة الاستقالة ، من أهمها مزايا المنصب المادية والمعنوية والتشريفية، واعتبار المنصب مكسب وليس مغرم ، وضعف الشفافية وعدم وجود الجهة الرقابية والجهة التي تحاسب على التقصير والفشل ، ناهيك عن عدم وجود معايير الوصول لهذا المنصب الذي عادة لا يكون عن طريق الانتخابات الحرة، بل عن طرق اخرى مخلة بالعدالة والمساوة وتساوي الفرص وبيعدة عن المعايير المحددة الواضحة .