18 ديسمبر، 2024 8:18 م

“ثرلي” في حضرة السلطان.. دكتورة نجاة

“ثرلي” في حضرة السلطان.. دكتورة نجاة

كعادته.. ترك مقعده المريح جانبا..”واثق الخطوة يمشي ملكا”.. متجها نحوي قاصدا.. كل شيء فيه.. كان يبدو جميلا هادئا.. يحكي الترف.. يحكي الشرف.. في عز العزاء.. يحكي ثناء بالطبع لا يقصده.. ملامحه الحادة تصر على أن تفضحه.. تصرخ غيضا.. تشكي ويلا.. تحكي أسرارا.. عن إفشائها لا أحد يجرؤ.. عيناه تحكي الصبابة.. شفتاه تحكي الملامة.. إشارات لن يلتقط شفرتها.. إلا من كان مكسور الخاطر مثلها.. نبرات صوته الخشن.. بالرياح وبالإعصار يذكرها.. كان يبدو وحيدا صامدا.. لأبي الهول في صمته محاكيا.. يطأطئ رأسه يمينا وشمالا.. باحثا له عن كلمات يلقيها علي وبيلا.. عن مكان يبقيه عني بعيدا.. يا رجلا خسر الرهان مسبقا.. ضاعت منه الأركان غفلة.. طاف حولي عكس عقارب الساعة حسرة.. في أغرب رحلة عنوانها الفشل.. أفكار تأخذه نحو الندم.. وتلقي به في بحر العدم.. من موقفي كان مستنكرا.. من ثورته كنت مستغربة.. يقف أمامي تائها.. من سلاحه مجردا.. يغيب عنه الفهم ثم يحضر.. يعوده الشرك بالله ويكفر.. يعوده الشوق من جمره يلتهب.. يعوده الحنين إلي.. ضدي ينتفض.. كل واحد منا.. لحضن أمه يحن.. ولآلامه يحضن.. في قلب كل واحد منا مشاعر تبهر.. شظايا جروح من دهاليز الصبا تنبعث.. معانات مقنعة عنا تطل.. بائسين، يائسين كلينا للمصير نترقب.. الخوف كل الخوف أن يغيب الشوق عنا وينتحر.. أن يتلاشى بريق الأمل في مقلتينا ويندثر.. أشفقت على حاله مني حتى.. نسيت أنني لحكمه أنتظر..
بينما كان السلطان يحاول الظفر بالغنيمة.. كان الحجاج بغيابه.. يخفي معالم الجريمة.. خشيت أن أعطي للموقف بعدا.. ألقي بالأنساب أرضا.. أردت أن أعطي لحقده ظهرا.. يلقيني في بحر الجحيم غدرا.. بحثت عن سيرته فضولا.. وجدته بالحشود مصليا.. على صدر العشيقات دمعه متدفقا.. ببيت الحريم متمسكا متعبدا.. من موقفي كان يشكو متذمرا.. لدور العشيق كان ممثلا بارعا.. ناسيا أنه بالأيمان المغلظة مقسما.. رغم البياض الذي يكسو فروة رأسه.. والبذلة التي فرضت الوقار عليه.. برغم السنوات التي قضت بدون إذنه.. والمقاهي التي تحكي قصص غرامه.. مازال الرجل متشبثا بدينه.. حتى لو جاءك بالآيات البينات.. لا تصدق قولا جاء الحجاج به.. حتى ولو دعت له أمه.. لن يفلح فيلق كان على عرشه.. صحيح أن كعبه عاليا والمعطف غاليا.. إلا أن الشرف يبدو باهتا والغباء عليه باديا.. كم كان الأعرابي مخطئا.. حينما اختار أن يكون لي معاديا.. بينما كنت غارقة في بحر أفكاري.. أستوعب ما كان يجري من الأحداث حولي.. سمعت صوتا من كثرة الغبن ينادي.. يدين ما صنعته بي الأيادي.. ألوان ذهبية.. ستائر ناعمة من الطراز العالي..عن فخامة السلطان تحكي.. أشعة الشمس تلامس خدي.. حروف أندلسية.. منقوشة على الجدران.. محتجزة مثلي.. عن حال حاضرها تبكي.. عن ذكرى ماضيها تشكي.. مخطئ من ظن أن للصمت عدة مزايا.. وأن الذل إن طال ليس له زوالا.. بعد ساعات من الانتظار.. حل السلطان بلباسه الرسمي.. أرجواني اللون.. يحمل في يده اليسرى صولجانا ذهبيا.. وفي يده اليمنى قرارا بائسا.. رغم نبضات قلبي غير المنتظمة.. ونظراته الحادة غير المبشرة.. صوت رخيم بداخلي كان يطمئنني.. ابتسم لي السلطان متباهيا.. ابتسمت له بدوري كبرياء.. في انتظار النطق بالحكم.. أخذ الحجاج مكانه مثلي.. رغم قربه الشديد مني.. لم أسمع ما كان يحكيه عني.. فجأة انقلب السحر على الساحر.. تكسرت المرايا.. سقطت الثريا.. رياح قوية غيرت المسار.. قررت المحكمة حضوريا أن تصبح أيامي كلها متشابهة.. ويصبح الأبيض والأسود لي ملازما.. وتصبح سيرتي بالحجاج مقرونة.. قررت المحكمة حضوريا.. أن تصبح قصتي على كل لسان.. وتصبح قضيتي للتفاهة عنوانا.. أن أصبح في البلاد بهلوانا.. وأبقى مدى العمر تحت الأنظار.. حتى تتخلص روحي من “رجس الشيطان”.. ويستقيم أمري وأنسى ما كان المعلم إليه يدعوني.. بل حكمت المحكمة حضوريا.. أن تبقى قضية النضال مستمرة.. وتبقى قصة “بلا عنوان” سرمدية.. أدركت ما كانت تعنيه ابتسامة السلطان.. كما أدركت ما كان يقصد “بفلسفة الشيطان”.. إنها لعنة إعادة الإنتاج.. أبطالها من فصيلة النعاج.. يا أمة تعيش تحت وطأة المزاج.. إذا أسأت لي يا حجاج مرة.. سوف أسيء لك ألف مرة.. كما تدين تدان.. فافعل بمصيري ما تشاء.. لا تكن فاخرا بما كنت فاعلا.. الأيام بيننا لا تكن جاهلا.. (يتبع)