22 ديسمبر، 2024 5:58 م

تَعَدّد الحُكام .. والمأسّاة واحدة!

تَعَدّد الحُكام .. والمأسّاة واحدة!

شهدت الدولة العراقية على مر حقبتها التاريخية حالة من الاختلال والتفاوت وسياسة من الجفاء والتخشب الفكري والثقافي بين السلطة والشعب الأمر الذي أحدث فجوة عميقة بينهما يصعب احتوائها أو معالجتها عملياً, وغالباً ما كانت النظم الحاكمة تعيش على الموروث الشعبي للوطن, وعلى حساب الشعب (المحكومين), فكانت حالة التفاوت والإخلال بموازين القوى داخل العملية السياسية وتنامي الاستبداد وتغييب مؤسسات الدولة الفعلية, مع إن هناك تعددية وتنوع خلاق, أثرى المجتمع العراقي وحوله إلى منظومة متكاملة من القيم, كانت تحمل إجماع شعبي على وحدة وتكامل تضامن المجتمع المحلي وتماسك المجتمع وتجانسه, لكن كان ذلك رغماً عن أنف السلطة, أو دفعاً لمصلحتها, أو كما تشتهي سَفَنْها هي.
  لقد امتازت المسيرة التاريخية والتحقيب الزمني للأحداث وتوالي الأنظمة والأحزاب السياسية على هرم السلطية في العصر الحديث, في الربع الأخير من القرن الفائت وما تلاه من الربع الأول من القرن الحالي, بإنها مرحلة استبداد سياسي عام, وديني خاص لفترات متفاوتة, ومزاولة أبشع النظم الدكتاتورية المتجلببة بقيافة الأليغارشية, تاره, وبزّي الثيوقراطية تارهٍ أخرى.
   وأكثر كانت تلك النظم الحزبية المتعاقبة على السلطة في العراق مارست حالة من القمع والتشرذم واستلاب للحقوق ولجم للحريات, إزاء فئة محدودة أو طائفة بعينها, إقصاءاً وتهميشاً, باسم العرق (القومية), بادئ الأمر (فترة السبعينيات), وباسم (العائلة والعشيرة) فترة الثمانينات والتسعينيات, وباسم (الطائفة والمذهب) فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي, بمعنى إن كل حزب حاكم أو نخبة سلطوية جاءت من أجل فئة أو بالأحرى توظيفها وتمثيلها طائفة معينة على حساب الفئات الطوائف الأخرى, أو ربما إنها رأت في تحقيق وإنجاح نظريتها للدولة وترسيخ مقومات السلطة والتفرّد بها حينذاك, لا يتم إلا بإشغال مساحة أوسع من خصوصيات الطوائف الأخرى, والطوائف كلها براء من ممارسات السلطة ومؤسستهاالأمنية, فكانت النتيجة تنامي قيم الاستبداد والتسلط وانتصار الدكتاتوريات على الشعب, وبناء نماذج إمبراطوريات أليغارشية يُغذّيها منطق العنف والبطش والاستخدام السيئ للقوة العسكرية وتقديم الشعب موائد مجانية لغطرسة الأنظمة وكبائش وأضاحي قُدّاس قرابين لجياعى الهيمنة والنفوذ تماشياً مع سياسات الغرب الاستعماري الذي امتاز بسياسة ازدواجية المعايير في التعامل مع اطراف النزاع المحلي, _ كنظم الحكم _ مع الطوائف والتجمعات الإقوامية والدينية والسياسية, فإتفاق مصالح النخب الحاكمة غالباً ما تتوافق مع مصالح الغرب الاستعماري, وأكثر هي ليست إلا توافق مصالح وحسابات فردية, ففي حكم الرئيس أحمد حسن البكر كانت الحرب إنذاك مُعلنة ضد الأكراد, وخاض النظام وقتئذ حرباً شرسة ضد الكرد وتهجيرهم ومصادرة أموالهم وثرواتهم, وإبادة الكثير منهم, فكانت سياسات نظام ضد البكر هي بمثابة حرب ضد الأكراد باسم القومية, وتغيرت ملامح المشهد السياسي نوعاً ما مع تسنم صدام حسين زمام الحكم حيث تحولت الجبهة ضد طائفة الشيّعة وضد طقوسهم وعباداتهم وحرياتهم الدينية, وقمع الطائفة في الثورة الشعبانية وإبادتهم مقابراً جماعية لا تعد ولا تحصى واستلاب حرياتهم, ومصادرة حقوقهم السياسية والمدنية, فكانت حينئذ حرب ضد الشيعة باسم العائلة والقبيلة, .. حتى جاء الاحتلال لغير ملامح المشهد مرةٍ أخرى, وُيعيد توازنات القوى المحلية وفق خارطة طريق جديدة, ليتحقق شرط التغيير السياسي, فكان بحكم الحال والمنطق لصالح الفئة المهمشة من النظام السياسي البعثي, فكان البديل هو التيار الإسلامي ومجموعة الأحزاب السياسية ذات الصبغة السياسية (الإسلام السياسي), التي أضحت ملامحها مذ مؤتمر لندن وصلاح الدين قُبيل الحملة العسكرية لاحتلال بغداد, والتي جَرَت البلاد لمنزلق خطير متمثل بالحرب الأهلية, وقيام دولة توافقات سياسية أرضت النخب الحاكمة لكنها أحرقت مقدسات الشعب بإقتتال طائفي ما زلنا نعيش ربيعه الدموي, فكانت بمثابة حرب على السُنة باسم الطائفة والمذهب.
  لكن هذا لا يعني بحال من الاحوال إن الشعب (قومياً, قبائلياً, مذهبياً) ممن ينتمون لحزب السلطة وفئة الحكم عقائدياً هم متوافقون على الحرب ضد الطوائف والقوميات على مر المرحلة, فالعرب (سنة وشيعة) شرعوا لاستقبال النازحين من الكرد في الاعوام 1973, 1974, 1976 وفتحوا ابوابهم لهم بحفاوة وكرم عربي في سامراء, والرمادي, والناصرية والعمارة, والعرب السنة لم يقفوا إلى جانب النظام البعثي ضد حقوق الشيعة في العام 1991 وما تلاها, رغم بطش وسطوة النظام ضد من يعارضه, والعرب الشيعة اليوم ليسوا أعضاء في الأحزاب الدينية المسيسة التي تمارس وتقبل العنف اليوم, ولا تمثلهم الممارسات التي تستهدف المدنيين والأمنين العُزل في المناطق الساخنة, وعبر عن ذلك الموقف المراجع الكرام في النجف وكربلاء وبغداد, دون أن يعني ذلك إن العرب لم يتأذوا من حكم البكر, أو إن السنة لم ينالوا نصيباً من القمع, أو إن الشيّعة لم يتعرضوا لما تعرض له أهل السنة اليوم, فالكل هنا يتقاسمون رغيف خبز المعاناة بفجاجة وآلم, وعلى مر التاريخ.
  وما نريد قوله: إنْ المواطنين العَرَب والكرد, السُنْة والشيَّعة, المُسلمين والمسيح, لا تجْمعهم في مناحة الوطن مصائر مشتركة وإنما مصائب مشتركة (!), ومأسي وآلام وأوجاع ما إن أُفجع بها العربي حتى تنخى له الكردي ووقف إلى جانبه وشد من أزره, وما تآلم السني حتى تفداه الشيعي بغيرة الإسلام والنخوة العربية, .. لكن يبقى الخلاف قائم ما بين الحاكم والمحكوم, مع تبادل أدوار اللعبة, كل مره تنال طائفةٍ نصيباً من القمع والاستهتار السلطوي, .. إذ تعدد الحُكام والمأساة واحدة!!