من المفرح أن عملاً ما تنموياً أو بناءاً خدمياً أو نتاجاً زراعيا ينمو ويكبر ويزداد ويتضخم بمعنى زيادة الخير، فهو حالة إيجابية تسعد كل من يجد ويجتهد ليوسع عمله ويزيد إنتاجه، بشكل خاص إن كان على أسس سليمة وغايات مشروعة، وتمكن صاحبه من أن يفيض بما زاد من خيره على غيره. وبالتأكيد فالحديث هنا ليس عن التضخم الذي يحصل لسوء التدبير الإقتصادي كحالة توجب التصدي لها. الحديث هنا عن حالة أخطر.
لا بد أن منا لاحظ ويلاحظ ظاهرة سائدة في عموم بلداننا وفي أوساطنا بمختلفها وتكاد تكون مبرمجة وشائعة بين من نعرف ومن لا نعرف ومن الشيب والشباب، ويمكن أن نقرب الصورة لتصبح أكثر تحديداً وتركيزا، سنرى أنها وبالتأكيد تتركز في أوساط المناصب الإدارية والرئاسية في أي ميدان ومجال. وتلك هي حالة التضخم، النفسي والبدني. ظاهرة واضحة للعيان إذ يزداد وزناً وحجما أولئك الذين يتولون مناصب إدارية أو رئاسية، أو من يرون أنهم صاروا بمقام رفيع بعد فترة وجيزة من توليهم ما يظنون، ثم يبدأون يتحدثون عن أنفسهم وكأنهم أتوا بما لم يأتي به الأوائل على سياق قول الشاعر، وما يعود كثير منهم يخجل مما كان يظنه بنفسه قبل ذاك أو منقصة يراها الآخرون فيه. فما يظنه هؤلاء بعد توليهم المناصب أنهم صاروا أسيادا.
الحقيقة لم نسمع بوجود تلك الظاهرة في أي من بلدان العالم المتحضر إلا ما لا يكاد يُذكر. نعرف أن من يتولون المناصب الكبيرة وحتى الصغيرة حسب مهامها يعملون على أساس الإعتقاد بأنها مسؤوليات مهما كان حجمها وليست هبات، ومن يتولى تلك المسؤولية سيتضاعف جهده في العمل والمتابعة والتقييم والتقويم والتطوير، فيسهر على تحقيق كل ذلك لمصلحة عمله من جانب وليثبت جدارته فيما خول به من جانب آخر. إن أولئك الناس ربما يعملون على وفق مبدأ أساسي لبناء المجتمعات السليمة والقويمة في تحمل المسؤلية والعمل ترجمة عما يعرف ويحفظ في بلادنا الإسلامية لما جاء في القرآن الكريم (وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُم وَرسولُه والمؤمِنُون) أو في ذلك الحديث النبوي الشريف الذي يردد كثيرا (كُلُكُمْ راعٍ وَكُلًكُم مَسؤولٌ عنْ رَعِيَتِه). ونحن نعلم وبكل ثقة أن العمل على وفق هذا المبدأ في بلادنا لا يتيح للعامل به راحة نفسية أو زيادة في الوزن، فهذا ينافي الحقيقة العلمية البايولوجية والنفسية إذ إجهاد البدن والنفس. ورب قائل ان هذا ليس بالضرورة، ربما، عندما يكون الأمر في مجتمع متحضر، فالمجتمع المتحضر لا يتواكل فيه الناس على غيرهم، فلا يجد من يترقى لمنصب ما متراكما من الأعمال غير المنجزة أو يواجه الفساد الإداري وغيره، ما يثقل الكاهل ويستوجب القلق الذي يسلب راحة البال، فهم يتحملون مسؤولياتهم بدقة، ويعملون بإتقان، مسؤوليات عملهم محددة، وساعات عملهم محسوبة، وإنجازاتهم مثمنة، وإلا ما وصلت تلك البلاد لما وصلت إليه اليوم ووصلنا إليه غابرا. ورغم أن الأمر لا يخلو، فالأمور عندنا مختلفة. فعندنا، إن حصل وتولى مخلص ذو ضمير حي وأراد العمل بما يرضي الله، فلن يجد ما يريحه على صعيد ما يريد إنجازه أو على صعيد من يعمل معهم، وما يجده بالتأكيد مكائد لتقهره نفسياً، ولتشل عقله وجوارحه، وفي نهاية المطاف لتزيحه إن لم يكن ذو إرادة وعزم، فتنهي رحلته وإلى الأبد.
في بلادنا ما أن يتولى أياً كان منصباً حتى ترى أن الكرسي ما عاد يتناسب وحجمه، رغم أن المسؤوليات في أي منصب عندنا جسام، حيث تتراكم المسؤوليات، ويكثر الفساد الإداري ويسود التواكل والتكاسل وقل ما شئت. إن من يقبل بأي منصب يعرف مسبقاً أنه سيحمل هموماً كبيرة ويتحمل تبعات كثيرة. وحتى تصح المعادلة علمياً وعمليا في مثل تلك الحالات، فمن مؤشرات الضمير اليقظ وجدية العمل أن ترافقها أعراض معروفة من الإجهاد النفسي، ونقصان الوزن، وجه بملامح متعبة، زيادة في الجهد المبذول..طبعاً من أجل إصلاح ما فسد وتطوير ما تخلف.
ما يبرع به أولئك المتضخمين في دوائرنا ومؤسساتنا، شعارات وشعارات يطلقونها في اجتماعات رمزية وندوات صورية ومؤتمرات شكلية متخلفة لمناقشة المشكلات ولبحث التطورات المزعومة، أهدافها لا تتعدى في حقيقتها أن تكون تجمعات لا غاية مدروسة لها، وعادة ما تنتهي تلك الاجتماعات وتلك الندوات والمسميات الأخرى إلى وجبة طعام دسمة، غالباً ما ترصد لها مبالغ ضخمة يتنافس عليها المشاركون بجدية وبحماس، وبعد نهاية تلك الجلسات القيمة، يعود كل إلى كرسيه فيجد أنه ما عاد مقاسه فلا يتسع له، فيضطر مرغماً، لا ليس بطرا !!؟ أن يبدله بحجم أكبر، ولا بد بالتالي أن يغير ما حوله ليتناسب مع الكرسي الجديد، ومن ثم قد يصبح المكان ببنائه وبرمته لا يحتمل الحجم الجديد فتتفاقم الحالة وتصبح مشكلة على الجميع أن ينتفضوا ليجدوا لها حلا، أما مشكلات الجميع فتعساً لها، أما ذلك الخراب فليس بمشكلة، إذ يمسي المبدأ الجديد الذي يعمل به هؤلاء هو أن ما اعتاد عليه الإنسان يصبح جزءاً من حياته فلا ضرورة لتغييره. ومفهوم التغيير عند أولئك هو ما يتمحور حول الكراسي وأحجامها التي تشكل مشكلة حقيقية على الجميع تحمل مسؤوليتها وحلها ومتابعتها دائما. وبناء على ذلك أيضا ففكرة أن تتحول القيادة في أي ميدان كانت إلى آخر لا تعود فكرة مقبولة نهائيا حتى وإن هرم من على كرسيها أو فقد ذاكرته واستنفذ كل سنوات خدمته، فالتقاعد ليس بوارد. وهكذا فالعجائز في مؤسساتنا يتراكمون ويعاد تعيينهم وتدويرهم. القضية تثير حالة غاية في الاشمئزاز والتقزز.
الأغرب والأخطر، فإننا كثيرا ما قرأنا وسمعنا وتأكد لنا وعبر تاريخ الإنسانية أن الشباب هم بناة الحضارة دعاة التغيير وأدواته، هم من يتصفون بالحماسة والتطلع لمستقبل أفضل….لذا فالمتوقع أن هذا الشباب بحماسته لا بد أن يعمل بفكر نير وبرشاقة وإشراقة تبعث الأمل في الإصلاح والتغيير نحو الأفضل لأبناء جيلهم وتصحيح المسارات الخاطئة لمن سبقهم وما أجمل ما سيكون. ولكن للأسف هذا أيضاً لا يحصل، فسرعان ما تسري عدوى ذلك الوباء الخطير ونفاجأ بظهور الغيلان، حتى تجد ذلك المشروع المتأمل فيه قد زاد في الخيبات خيبة، في حين قد أصاب المعني به تضخماً وما عاد يقوى إلا على ملازمة كرسيه والإلتصاق به. ولنكن منصفين، فعالباً ما يكون هذا النوع من الشباب على شاكلة من سبقهم، وبالتأكيد من يؤيدونهم ويدعمونهم، فالمتوقع أن من يكمل مسيرة هؤلاء لن يكون ذلك النوع من الشباب الذي نعرف، ولن يأخذ دوره بالتأكيد، بل ستنتقل الأدوار إلى المستنسخ منهم والمعد مسبقاً ليسرق جهد الآخر، وليكون صورة طبق الأصل من أولئك المتضخمين ليكملوا مسيرة التخمة، أو من وجد نفسه تحت ضغط تلك الغيلان ليروض، فيصبح واحداً منهم، ولن يكون حينها أحد أحسن من أحد. أما أصحاب التبشير والتغيير، فمؤكد أن الموقف تجاههم هو التناذر والحذر، فهؤلاء الشباب يمثلون بالنسبة لهم خطراً يهدد مناصبهم، يكشف زيفهم ويفضح عيوبهم.
إن كانت تلك الظواهر قد تركزت في أصحاب النفوذ هنا، نجدها وقد أخذت طابعاً عاما في بلاد العرب والمسلمين بريادة وقيادة كبارهم ودعاتهم، أن تلك الظواهر تشبه إلى حد كبير ما يعتري عدداً ممن ينسبون لأنفسهم الدين والعلم بالدين من أولئك الذين يظهرون على شاشات التلفاز في ما تسمى بالفضائيات العربية والإسلامية التي أنتشرت واتسعت، ويتحفوننا بأحاديث وأقوال في الزهد والورع والصبر على البلاء الذي لم يذوقوه، ونصرة الضعفاء والمساكين الذين لم يصلوا إليهم إلا دعاية لهم ونفاقا، نراهم ولا نجد رابطاً فيما يُحدثون به وما هم عليه من تخمة. رؤوس كبيرة بوجوه شعثة ورقاب قد تغلظت أقطارها أضعافا، والتصقت بأجساد عظيمة متورمة لا تكاد تستوعب صورهم شاشات التلفاز، حتى يضطر حامل الكاميرا لإبعادها كي نتمكن نحن من تمييزهم أو لتتوافق صورتهم مع ما يخبروننا به من أقوال لا تؤشر الحقائق والوقائع الظاهرة أمام المشاهد أية دلالات على صدقها. وحاشى أن يكون قصدنا الطعن بخلق الله، إنما أولئك هم من يشوهون خلقه ويسيئون. فكيف ينصح متفقه في الدين أو متحدث بالشريعة الناس بالتقشف أو الزهد واتقاء الله تعالى في الفقراء والمحرومين، ونراه وقد استقر بثقله العظيم على عرش أعظم وهو يرتدي من الثياب ما لا يطاله حتى الأغنياء أحيانا، وكل ما حوله يوحي بالثراء والترف من أثاث وفرش..وما من أكبر شيء حتى أصغره من أرائك وعروش وسجاد وثياب مُنشاة بأجود المثبتات..إلا ومستورد من بلاد الشرق أو الغرب، من الهند واليابان ولندن وباريس..ومكلف ما لا يطيق القائل والسامع لفظ كلفته، وما من ذلك إلا ومصنع بأيادي لا دخل لابن البلد في تصنيعها إذ تعود على التخمة والكسل والعقل المفرغ تأسياً بِولات أمورهم فهكذا أرادو له وقرروا. أي زهد وورع ذلك الذي يحاولون إقناع المحرومين به، وأي تواضع يتحدثون عنه مستشهدين بآي القران الكريم وأحاديث نبيه الكريم وبها لا يعملون، فيناقضون أنفسهم وهم لا يشعرون أو يشعرون، ما عادت خافية تلك الاستراتيجيات الخطيرة لتشويه الأديان السماوية والعقائد الحقة. تلك مشكلة تلقي بظلالها الثقيلة والخطيرة على مجتمعات وأمم.
كل ذلك وغيره، وقد استفحل وتفاقم حتى ليكاد ابن البلد لا يستبين لبلده ودينه ملامح، ويبقى قلبه دليله. ومع العلم بالكثير من الدوافع والمخططات سواء على المستويات الفردية أو الجماعية، ومن باب الأمل في أن ينظر الإنسان إلى نفسه وما حوله، في أن يختبر ويتعلم فيعود إن كان له أصل في عود نقول، ألا يتعلم هؤلاء؟ ألا يكتفون من كثرة الهزل واللا مبالاة واللا جدية بما يفكرون ويعملون، ألا ينظرون إلى أنفسهم وما هم عليه؟ إلا يشعرون قليلا بالمسؤولية تجاه من خولوهم بطريقة أو بأخرى، ألا يعي هؤلاء وهم يعيشون بهذا البلد المنكوب، أليس لهم من بين من تولوا عليهم من أبنائهم وأهليهم ومعارفهم على المستوى القريب او البعيد من يجتهد ويجاهد ليحصل على حق بسيط من حقوقه الضائعة بين مستندات وملفات متراكمة على طاولات أولئك المتضخمين مَرضيا، والتائهين بين طواريء وزائفات الأفكار والأفعال، ألا يشعرون بمعاناتهم، ولرب نبض للمروءة، فيحركوا عقولهم وأجسادهم فيصلحوا، أو على الأقل ليثبتوا أن لهم جدارة يقنعوننا بها ولو بقيد أنملة، أو يغادروا حفظاً لماء وجوههم ؟؟. ولكن كيف يمكن أن يفعلوا وهم يعرفون قدرهم حق المعرفة بأن ما هم عليه هم ليسوا أهلا له، وأنهم من دون مناصبهم لا شأن لهم يذكر، كما يعرفون أن الناس تعرفهم، ورغم ذلك فهم يستغشون حينا، وحينا بعيون قبيحة يظهرون. إنها حقا لكوارث. ثمة حقيقة نعرفها ويعرفها العراقيون ويتطرقون لها في مثل تلك الحالات المستعصية والميؤوس منها وهي أن لا رجاء فيمن أزاحوا من على جبينهم قطرة الحياء.