كنت قد اطلعت فيما مضى على كتاب (أسطورة الأدب الرفيع) للدكتور علي الوردي، ولظروف مستجدة أعتقد، أنه حان الوقت لتسليط الضوء على بعض فقراته، ومنها موضوع تبسيط اللغة والأسلوب الصحافي، لما له من ضرورة أعتقد حان وقتها، وسأعمل على نقل ما مكتوب نصاً من صفحة 56- 62، ومنها:
تيسير لغة الكتابة
كنت قد دعوت في مقالاتي السابقة الى تيسير لغة الكتابة والى تجريدها من الزخرفة والحذلقة اللتين أتصف بها الأدب العربي القديم، فنحن الآن نكتب للجمهور، لا للطبقة الخاصة، والحياة الجديدة تقضي علينا أن نغير من أسلوب لغتنا كما غيّرنا من أسلوب مساكننا وملابسنا.
وهنا يأتي الدكتور محي الدين فيقول بان هذه الدعوة ليست جديدة، فقد جاء البلاغيون قبل ألف سنة. وهو يعتبر ذلك من أبجديات علم البلاغة. ولكنني في زعمه جاهل بهذا الفن حتى صرت أخبط فيه خبط عشواء وألقي الكلام فيه جزافاً.
لست أريد أن أتباهى بنفسي فأدعي المعرفة التامة بجميع ما جاء في علم البلاغة، وفي العلوم الأخرى، من قواعد عظيمة. ولكن الذي أعرفه أن كثيرا من أخواننا الأدباء يستهجنون اللغة الواضحة المبسطة ويعدونها من طراز اللغة العامية المبتذلة. وهؤلاء منتشرون بيننا يصدعون رؤوسنا كل يون بشتائمهم.
كتب أحد هؤلاء في جريدة الحرية قبل أيام كلمة يعرَّض فيها بكاتب هذه السطور ويشتمه لأنه يدعو الى تيسير اللغة وتبسيطها. قال، “إن الدكتور علي الوردي بإصراره على الدعوة الى الأساليب المبسطة إنما يدافع عن نفسه ويحمي بذلك أسلوبه العاطل عن الجمال والفن..نتيجة عجز وضحولة في التفكير”.
وكتب مرة أخرى متسائلا، فهل الدكتور الوردي مصراً على رأيه الذي أصبح مضحكا يثير التندر والفكاهة في كل مكان..حتى أصبح يستحق الرأفة كما في مقال الدكتور عبد الرزاق محي الدين.. أما إذا كان محصول الدكتور علي الوردي في فهم اللغة العربية لا يرقى الى أكثر من مستوى ما يدعو إليه فله عذره الواضح على أن لا يذيعه وينشره بين المثقفين الذين يقدرون جمال التعبير في أدبنا الحديث…وهو الفارق بين طبقة الأميين والمثقفين.
والغريب إن الكاتب هذا يقول عني إني لا أتحرج من المناداة علناً باتخاذ العامية لغة الكتابة. ولما سألته كيف جاز له أن ينسب لي رأياً لم أقل به، أجاب: بأني ما دمت أدعو الى تبسيط اللغة فمعنى ذلك اني أدعو الى اللغة العامية. لم أجد في جواب هذا الرجل غير السكوت. وقد كتب الله علينا أن نعيش بين أناس لا يختلفون عن هذا الرجل كثيرا، ولابد لنا من السكوت عندما ينطقون أو لا ينطقون.
عتاب
ينتقد الدكتور محي الدين دعوتي الى تبسيط اللغة بحجة أنها دعوة قديمة مضى عليها ألف سنة، ولست أدري ماذا يقول عن هؤلاء الذين لا يزالون يدعون الى اللغة المعقدة والأسلوب الرنان بالرغم من وجود تلك الدعوة الألفية؟ أما كان الأجدر به أن ينتقدهم بدلا من أن ينتقدني، وأن يرشدهم الى كنوز البلاغة القديمة بدلا من إرشادي؟
لعله يقول أنهم قليلون بالنسبة الى غيرهم من الأدباء وهذه مسألة فيها نظر، والذي ألاحظه فيهم أنهم قليلون وكثيرون في آن واحد. فنحن نستطيع أن نعدهم قليلين إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما يخرج الى الأسواق من نتاج أقلامهم. والواقع أنهم من أقل الناس إنتاجا. والسبب في ذلك راجع الى نفرة القارئ منهم ومن تحذلقهم اللفظي الذي لا يحوي من المعنى إلا قليلا.
إنما هم في عين الوقت كثيرون، إذ هم منتشرون في كل مكان، ولهم الصوت المعلى في كل مجلس يرتادونه. ويصح القول أنهم يتكلمون كثيرا وينتجون قليلا وهاهم أولاء قد ملأوا الدنيا شغبا وصخبا، وجعلوا من أنفسهم نقاداً يصولون بشتائهم في كل ميدان، ويهاجمون بها كل من يكرهونه أو يحسدونه.
المواعظ البلاغية
لست أنكر ما جاء في كتاب البلاغة القديمة من دعوة الى تبسيط الأسلوب وتوضيح المعنى، ولكني أعتبر هذه الكتب مثل كتب المواعظ الدينية، إذ هي مملوءة بالتعاليم والإرشادات الفخمة، والناس يقرأونها أو يستمعون اليها صباح ومساء دون أن يتأثروا بها في حياتهم العملية.
الناس في حقيقة أمرهم لا يتأثرون بما هو مسطور في الكتب القديمة. انما هم يتأثرون بالقدوة التي يرونها في محيطهم الاجتماعي. فإذا وجدوا أديبا ينبغ من بينهم فيحصل على المنزلة العالية، حاولوا أن يقلدوه بالرغم من جميع التعاليم التي سطرها القدماء.
وهذه حقيقة اجتماعية لاأظن الدكتور ينكر صحتها، وهي تعلل ذلك الانهماك العجيب في الصناعة اللفظية التي طغت على الأدب العربي خلال القرون البائدة. ألم يكن بين الأدباء من قرأ علم البلاغة حينذاك؟ الظاهر أنهم قرأوه ثم أولوه كما يشاؤون. ومثلهم في ذلك كمثل أرباب العمائم الذين يأولون كما يشتهون ويفسرونه كما توحي به تقاليدهم وعقائدهم الموروثة.
أن كتب البلاغة القديمة لم تنفع الناس بالأمس وهي كذلك لا تنفعهم اليوم، والأدب العربي الحديث لم يتطور من جراء التعاليم المحفوظة في تلك الكتب. انما هو يجري في الطريق الذي يمهده أولئك الأعلام من المجددين. أذ هم يخرقون بضرباتهم المبدعة حجب التقاليد، حتى إذا نجحوا سار الناس وراءهم من حيث يريدون أو لا يريدون. وقد قيل في المثل العربي القديم، “القافلة تسير والكلاب تنبح”
الأسلوب الصحافي
مما تجدر الإشارة إليه أن الصحافة العربية قد ساهمت مساهمة فعالة في تبسيط اللغة وتوضيحها. وسبب ذلك أنها تتبع في الكتابة الأسلوب التلغرافي على حد تعبير الأستاذ سلامة موسى. أساس الصحيفة هو الخبر المنثور، وهي تحاول أن تعطيه للقارئ باختصار وبساطة، لكي يفهمه القارئ حالما يقع نظره عليه. ولهذا فهي تتجنب اللف والدوران أو استعمال الترادفات المتعددة في المعنى الواحد، كما يفعل بعض أخواننا من الأدباء سامحهم الله.
ويخيل لي أن الدكتور محي الدين مستبشر بشيوع هذا الأسلوب الصحافي في البلاد العربية فهو يقول: وهذه الجرائد العربية والمجلات والكتب الأدبية منذ خمسين سنة تحرر الموضوعات المختلفة فيها بلغة سهلة، وبعبارة واضحة، وبتراكيب ميسرة، لم يشك أحد فيها غموضا أو عسرا، ولم تستعص على القارئ إذا كان متوسط الثقافة.
والذي أريد أن ألفت نظر الدكتور اليه أن هذا الأسلوب الواضح الميسر الذي أستبشر به لم ينشأ بين العرب دفعة واحدة، ومن غير مكافحة ونضال. فقد بدأ به أول الأمر نفر من الكتاب، وقاسوا في سبيله عناءا كبيرا، ولا يزال النضال مستمراً.
من المؤسف أن نجد بعض أدبائنا باقين على رأيهم القديم في وجوب الارتفاع بأسلوب الكتابة فوق مستوى الجمهور. وهم ينعون على الصحافة لغتها البسيطة. وقد أصبح الأسلوب الصحافي عندهم ذما يتقززون منه. فإذا أرادوا الانتقاص من قيمة أحدهم قالوا عنه أنه يكتب بلغة أهل الجرائد. وقد نال كاتب هذه السطور من النقد في هذا الشأن قسطا كبيرا كما هو معلوم لدى الدكتور الكريم.
والأدهى من ذلك أن يثور هؤلاء في وجه كل من يدعو الى تبسيط الأسلوب متهمين أياه بمحاربة القومية. وأحسب أنهم أولى بهذه التهمة منه. فهم اذ يدعون الى الأسلوب المعقد الرنان. أنما يدعون من حيث لا يشعرون الى عرقلة نشوء اللغة الموحدة التي يستطيع أن يتفاهم بها العرب في شتى أقطارهم، ويتبادلون بها المنافع والأفكار. أنهم كتلك الدبَّة التي أرادت أن تطرد الذباب عن وجه صاحبها، فقذفت وجهه بالحجر وقضت عليه. وهي لا تدرك أن الذباب أقل ضررا بصاحبها من الحجر.