23 ديسمبر، 2024 8:38 ص

تيجان الملوك: بين اللغة التلقينية ومداد الوهم

تيجان الملوك: بين اللغة التلقينية ومداد الوهم

في البداية أود أن أنأى بعيداً عن الانفعالات وردات الفعل السريعة وإطلاق الاحكام النقدية الجاهزة المستندة للقراءات العابرة المتقلبة أو الهستيرية التي تهمل الوظيفة المعرفية للنقد المغاير وتقر بالبداهة الشفهية لكي أوفر لنفسي وللقارئ المتتبع الجاد مفاتيح أساسية لفهم، بعض، مجريات الامور فيما يحدث الآن في العراق بوجه خاص وبمحيطه العربي بشكل عام، سياسياً وثقافياً، وما سينتج أو يتبلور منه مستقبلاً لا بمعنى الاقرار النقدي بل بمعنى التطويع المعرفي لخدمة النوايا النقدية النزيهة المجردة والبعيدة عن المذاهب والطوائف والعقائد والتقلبات (الفكرية) من أجل اخضاعها للحقيقة المجردة أيضاً، وهي في ذات الوقت محاولة للخروج من الدائرة الضيقة لنظرتنا الضيقة إلى الاحداث الجارية والانتقال إلى المساحة التاريخية الرحبة في استيعاب ما يمكن استيعابه بعيداً عن الخطابية المباشرة أو المذهبية المبطنة المقيتة التي تستقطب الآخر لتلقينه أبجديات الخطاب التقليدي الهستيري مع العلم أن الخطابية، حصراً، قد تكون مطلوبة حين تستقطب قضايا إنسانية كبيرة بلسان عفيف وبمداد يكتب عن الوقائع لا الأوهام .
حين يُخير الضحية والجلاد على قبول أحدهما للآخر فإن الأختيار سيكون في أعلى مراحل الإجحاف وسيكون إرث الظلم قائماً ومستعاداً ومتجدداً مع تجدد حالة الائتلاف ما بين الغريب والقريب، وهنا سوف تبرز حالة من المفاضلة يفرضها الغريب على الضحية بحجة تحريره من قريب مضى وقريب قَــدِم بمعية هذا الغريب ودباباته وكّتابه وادلائه ومؤوسساته وإرثه الاجرامي لذلك ستبقى حالة الاستباحة مشروعة إلى أجل غير مسمى لأن مشروعية الاستباحة مستمدة من غلاظة الغريب وحماقاته أو عدم أعترافه بأحقية الضحية في كل شيء وخصوصاً ما يتعلق ببلادنا وثقافتنا وتاريخنا وإرثنا الحضاري لذلك سيبقى المحكوم محكوماً بتشويه الوقائع وبتمجيد العنف المتمثل بالحاكم المستعاد أستمراراً لحالة الأمتنان التي يقدمها القريب لهذا الغريب لما قدمه من (فضائل) أبرزها فضيلة (التحرير) وبهذا ستكون المعادلة مربكة إلى حد كبير في قبول أحدهما للاخر، من هنا نتسأل: كيف سنحافظ على رموز ورثناها وننطلق من تيجان ملوكها الأكديين والسومريين والبابليين والآشوريين إلى تاجٍ يفهم ماذا تعني مجموعة الشرائع في مسلة حمورابي أو معنى الخلود في ملحمة جلجامش؟ تاجٍ يفهمه الناس ويحبونه مثلما يحبون علي الوردي/الجواهري/جواد سليم/عبدالجبار عبدالله/ داخل حسن/زهور حسين وبدر شاكر السياب ووو ..  فما أن تولد حالة كهذه، سيبدو التاج أكثر لمعاناً وفي أقصى تجلياته وسيكون قادراً على التحليق بنا إلى الأعالي لا تاجاً يفقسهُ المنظر المتلون والعقائدي المستعاد والعنصري والطائفي أو الكاتب الذي ينتقل من الهجاء إلى المديح برمشة عين أو ارتعاشة لفظ فيلد مفاهيم ومصطلحات ولغة مشوهة مغلقة وأخرى تهويمية مزاجية غائمة لا تحمل في مضامينها غير المسميات الغريبة أو الشكل النقدي الذي ينقض على الحقائق والتاريخ والمعارف ويستبدلها بمداده الواهم وبهذا نكون قد عدنا إلى مرحلة ما قبل التدوين، وهنا ستكون مسألة التاج لدينا هي المعضلة، أليس بمقدورنا أن نكون أسياداً على أنفسنا؟ هذا السؤال علينا أن نطلقه الآن، فثقافة التلقين وسياسة الخوف لا تقيمان حداً لإمكان تنصيب تاجاً باستطاعته إقامة العدل وثقافة الحوار وتجاوز الاسقاطات الفئوية الماضوية واللغة الملونة، لِمَ لا يُسمح لنا بأختيار رموزنا ضمن أشتراطاتنا الظرفية والتاريخية والمعرفية لمجتمعنا لا ان يُحملوننا أشياء مرتبطة بصفات ذات طابع أزلي مشوه فلسفها مؤرخون أغبياء وفلاسفة بلهاء وكّتاب بلا موقف أو أخلاق؟ فنحن لا نبحث عن المطلق المتحجر الأسمنتي بقدر بحثنا عن المنطق المتوازن المجتهد أو النقدي المغاير أسوة بالشعوب المتحضرة الأخرى التي لاتقل تحضراً منا وكما وضعت حضارتنا أسس الكتابة والأخلاق والوصايا والتشريع التي حملت مفاهيماً متطورة في كافة المناحي الحياتية للإنسان الاول علينا أن نحمل هذا الإرث الكبير لنجعله يؤطر الشكل والمضمون والمعنى لمسيرة البلاد التي تستوجب التضحية وتستحق الصبر لتُرينا ونحن على أعتاب مرحلة حقيقية جديدة كيف يكون العدل والمساواة سلوكاً لا مفردات تلوكها الألسن وتغتابها النفوس فالأمر لا يحتاج إلى مفردات منمقة أو مداد منحرف أو معطيات صورية باهتة أو سفرة، للعراق، سياحية عابرة أو انطباعات مسافر يربكه القلق والخوف والظنون فيغشى بصره وبصيرته بقدر حاجتنا إلى ترجمة تلك المقولات والانطباعات والإشارات إلى فعل نقدي حقيقي يكسر جميع الحواجز المفروضة على كاهل الفرد العراقي المغيب والمهمش والبسيط، لهذا أقول نحن لسنا بحاجة إلى العودة ثانية للثقافة التلقينية القسرية ولمداد الوهم .
يبدو أن الممارسات الحضارية كما يتوهم بعض الذين يذهبون خلسة إلى العراق ويعودون منه بخفي حنين ستبقى حكراً على أصحاب الحضارات في الجهة الأخرى وبهذا التوصيف ستبقى الحالة العراقية علامة فارقة في جسد التاريخ الإنساني وبهذا التوصيف أيضاً قد تتحقق طموحات الأفراد حتى وان سارت سفينة طموحاتهم فوق برك من الوهم إذ كان لابد لهم من عرض الحقائق بصورتيها الوصفية التقريرية والتحليلية وفي هذه الحالة سيعود المؤرخون ليفلسفوا هذه الممارسات على انها جملة من الموروثات التاريخية وهذا الكلام ليس بمزحة ثقيلة ولا يحمل إشارات وجودية لكنه بمنتهى البساطة وسيلتي الوحيدة لإعادة الاعتبار إلى قراءتي الخاصة لما يكتبه البعض أو يتوهمه وللاحداث الجارية في العراق بصورة مقلوبة أدت إلى تحويل سير الاحداث، ذاتها، في إتجاهات لا يسع أي بوصلة تحديد مساراتها القادمة لأسباب بعضها مرئياً وبعضها مخفياً بين دهاليز الساسة وألاعيبهم وأشياعهم فالغبار التي جلبته هذه الفوضى وتلك اللغة التلقينية مازال يملأ العيون ويمنعها من الرؤية الواضحة الدقيقة لكن، هل يستطيع الكلام أن يحرك المخيلة؟ المخيلة التي تجتاح التفاصيل الدقيقة بلا مسوغات أخلاقية وبلا لغة أو موقف وهنا تسعفني عبارة الامام علي إذ يقول: (لو أن الكلام يعاد لنفد) . إذن، اللغة ليست الفاظاً فقط بل مجموعة كائنات تسهم في تشكّل المعنى أو رصد الدلالة التي تصل إلى أوج توترها وتصبح أكثر تداخلاً وأبعد إيحائية .