في التاسع و العاشر من حزيران عام 1967 خرجت جماهير مصرية كبيرة تطالب بعدول جمال عبد الناصر عن قراره بالأستقالة و التنحي عن أي منصب سياسي، ذلك بعد أن مني الجيش المصري بهزيمة فادحة في حرب الايام الستة التي سبقت الخطاب و على يد الجيش الاسرائيلي.
لقد كانت هزيمة عسكرية مروعة و هزيمة نفسية أكثر إيلاماً. فالمصريون و العرب و بهزيمة الجيش المصري كانوا قد تعرضوا الى صدمة فائقة الشدة أدت الى ذهول مُثقَل بخيبة أمل بالغة العمق، و غير محسوبة النتائج. و كان لابد من خطوة ما يستطيع نظام عبد الناصر بواسطتها أن يأخذ بالمصريين و العرب الذين ينتمون الى تيار الناصرية الى وضع الافاقة من الصدمة، إفاقة يمكن التحكم بها.
الحالة النفسية المرضية من (الذهول) التي أصابت أبناء هذا التيار نتيجة هزيمة الخامس من حزيران كان لا يمكن لعلم النفس و هو يحاول أن يعالجها إلا أن ينصح في أن يحقق المريض خطوة شخصية توهمه بأنه مازال حياً و يمكنه أن يتخذ قرار، أي قرار كان، يشعره بسريان الدم في عروقه و خصوصا إذا كان هذا القرار على شاكلة تحقيق مطلب ما.
و لهذا و بخطوة مدروسة أعلن عبد الناصر تنحيه عن السلطة لكي يضع كرة الخسارة في مرمى الانسان المهزوم و المغلوب على أمره ليرد هذا الانسان على هذه الخطوة و على شكل مطلب يحقق به أنتصاراً موهوماً، فكانت هذه الخطوة هي مطالبة عبد الناصر بالبقاء في السلطة، بالاضافة الى أن عبد الناصر قد أرجع أسباب هزيمة نظامه من خلال خطاب التنحي الى أطراف خارج التيار الناصري، و كانت، و كالمعتاد، القوى الاستعمارية. فكانت مظاهرات صاخبة و بعاطفة جارفة،نفَّسَ فيها تيار الناصرية عن نفسه و خلق لذاته قضية يمكنها أن تشغله عن تفكير حبيس الهزيمة، و تضع له هدفا ما يشعره بأنه يحققه.
عاد عبد الناصر بعد مظاهرات التاسع و العاشر من حزيران الى السلطة و عدل عن رأيه بالتنحي و وعد التيار الناصري بالعمل على إزالة آثار العدوان و العبور بهذا التيار الى النصر. فكانت تلك الخطوة هي العلاج النفسي المسكن مرحلياً و التي إستطاعت أن تسيطر على إنفعالات التيار و التي بدونها كانت تلك الانفعالات غير محسوبة النتائج.
إلا أن التيار الناصري، و ككل التيارات المرهونة بشخص، كان قد فقد موقعه السياسي و تأثيره على الجماهير شيئا فشيئا مع موت جمال عبد الناصر. و كذلك هو مصير كل التيارات المرهونة بشخص واحد.
التيار الصدري، مع الفوارق العديدة حين مقارنته بالتيار الناصري، يعاني اليوم هزيمة كبيرة، و يحاول أن يمارس بشخص قائده مقتدى خطوة شبيهة بتنحي عبد الناصر عن السلطة. فعبد الناصر كان قد حقق من خلال قرار تنحيه إلتفاف عواطف التيار حوله لأنه دغدغ هذه العواطف حين تمظهر بأنه ضحية خلل الاخرين. فبالاضافة الى الاستعمار العالمي فقد إدعى نظام عبد الناصر بأن قطب الهزيمة كان نائب رئيس الجمهورية و القائد العام للقوات المسلحة آنذاك عبد الحكيم عامر.
و خطاب مقتدى ليوم الثامن عشر من شهر شباط هي محاولة (مقتدائية)، كتلك الناصرية،جهد مقتدى نفسه من خلاله في إعزاء الفشل الذي يواجهه تياره و الفساد الذي يمارسه هذا التيار الى وجود الاطراف الخارجية و التي تمثلتبالحكومة العراقية، كما أنه يشاع الان أن زعيم الكتلة البرلمانية الصدرية بهاء الاعرجي هو المرشح الاوفر حظاًلِلَعِب دور عبد الحكيم عامر في دراما الخامس من حزيران، و الذي مات إنتحاراً كما أشيع آنذاك.
التيار الصدري سيتلاشا كغيره من التيارات المرهونة بفرد حتى قبل موت مقتدى الصدر، و قد يكون التيار اليوم بمرحلة الاحتضار. فالفرق كبير بين طبيعة التيار الناصري و طبيعة التيار الصدري، كون قائد التيار الناصري هو عبد الناصر نفسه، مثلما كان خطاب تنحي عبد الناصر هو من عنديات عبد الناصر نفسه، بينما التيار الصدري يعيش على ذكرى و (قدسية) شخص مات قبل أن يولد هذا التيار و هو محمد محمد صادق الصدر. و التيار الصدري لا يتحرك بديناميكية مقتدى الصدر مثلما كان التيار الناصري يتحرك بديناميكية عبد الناصر. و قد كان واضحا أن مقتدى و منذ الولادة السياسية للتيار الصدري لا يملك كل القرار في داخله. و قد بدى هذا الفارق بين التيارين واضحا من خلال لغة خطاب مقتدى الذي أظهر أنه ليس من عندياته، بل أن عنديات مقتدى في هذا الخطاب ظهرت فقط من خلال تلك العبارات (المقتدائية) من قبيل (كصكوصة)، أي قصاصة ورق، و التي تلفظها بلهجته العراقية.
سوف لن يعود مقتدى الى قيادة تيار صدري تعود الناس عليه و على طبيعته، فلقد مات التيار الصدري و توزعت تركته على العديد من ورثته بعد خطاب الثامن عشر من شباط. و سوف ينتحر أو ينتهي بهاء الاعرجي سريعاً إن جسديا أو سياسياً كما إنتهى عبد الحكيم عامر.
و يبقى أن التيارات التي تساوي واحد تحكم على نفسها بالموت منذ لحظة ولادتها.