18 ديسمبر، 2024 6:01 م

تونس ومقولة ‘الكتلة التاريخية’

تونس ومقولة ‘الكتلة التاريخية’

ليس تلويح بعض الأحزاب بمقولة ‘أين البترول’ إلا ميسما من مياسم الإفلاس السياسي وترويج المغالطات، ذلك أنّ تونس دولة الثروات الإنسانية والكفاءات العقليّة والذهنية والعلمية.

لم يجانب المفكر المغربي محمد عابد الجابري الصواب حين اعتبر أنّ مقولة “الكتلة التاريخية” بما تعنيه من تحالف استراتيجي ظرفي بين كافة مكونات المشهد السياسي والمدني قادرة على الخروج بأي بلد من مستنقع المعضلات العاصفة به، أو على الأقل تؤهله للخروج بأخف الأضرار الاقتصادية والسياسية والثقافيّة.

تعيش تونس اليوم واحدة من أثقل وأصعب المشاكل التي مرت بها الدولة التونسية منذ استقلالها، هي أزمة هيكلية تمس منظومة الحكم بما هي تقاسم مصلحي بين قطبي المشهد السياسي قائم على التعايش لا التحالف الحقيقي، وهي أزمة مطلبية اجتماعية واقتصادية ملحة باتت اليوم فوق طاقة الدولة الوطنية وقدراتها التنموية والتشغيلية، وهي أيضا أزمة استيلاد مشارب الاستثمار الخاص والعام، وفوق ذلك هي معضلة منطقة مغاربية مفتوحة على كافة فرضيات الدمار والدماء ومحنة وعود استثمارية جاءت زُمَرا في حفل الأقنعة الدولية وذهبت هدرا عند استحقاق الدفع والإيداع.

المفارقة اليوم في تونس أن معظم الأحزاب السياسية شاركت في الحكم وصلب منظومة الحكم بدرجات متفاوتة، بمعنى أنها وبنسب متفاوتة مسؤولة سياسيا وأخلاقيا ومبدئيا عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تعيشها البلاد اليوم.

فلا وجود لمظلومية الإقصاء أو صورة الضحية المصلوبة على خشبة الحكم، فمن اليسار إلى اليمين ومن التشكيلات السياسية التي جاءت عقب الثورة التونسية إلى الكيانات السياسية التي استلت من رصيد النظام القديم رأسمالها التنظيمي والدعائي لفرض نفسها في المشهد السياسي، كلها كان لها دور في مكوّنات الحكومات المتعاقبة أو في منظومات الحكم التنفيذي والتشريعي.

مما يعني أن المزايدة السياسية اليوم مرفوضة ومحظورة أخلاقيا وأدائيا أيضا، فلا الحكومات المتعاقبة أوجدت للبلاد والعباد قاطرة العبور إلى ضفاف التنمية والكرامة الاجتماعية والاقتصادية، ولا المعارضات بشتى أنواعها أصلت لبديل تنموي واستثماري قادر على انتشال تونس من حالة الفشل المنسحبة على معظم المجالات العامة.

فأن تتحدث بعض الأحزاب السياسية التونسية اليوم وأولها حزب حراك الإرادة الذي انتخب المنصف المرزوقي رئيسا له، عن انتخابات برلمانية مبكرة يشير لا فقط إلى إرادة انقلاب على نتائج التصويت الانتخابي السابق وعلى نص الدستور، وإنما أيضا إلى قصور في تصور مشاكل البلاد وعجز عن استجلاء مسالك الحلول.

فالدولة التي تعيش أزمة اقتصادية هيكلية وتعاني صناديقها الاستثمارية والتقاعدية والائتمانية من شبه إفلاس معلن، تحتاج إلى هدنة سياسية واجتماعية وإلى كتلة تاريخية قوامها مشاركة واسعة في الحكومة والحكم على برنامج ميثاقي يتوافق حوله معظم الفاعلين السياسيين والاجتماعيين.

والدولة التي تعيش على التداين الأجنبي وعلى قروض المانحين وهبات الدول من المشرق والمغرب، لا تُستنبت فيها المزايدات السياسية ولا المناكفات الأيديولوجية، ذلك أن المعارضات تقوم على بدائل اقتصادية واجتماعية في دولة سيدة وعلى كيفيات استخدام وتوظيف الثروات الوطنيّة، أما الدولة المرتهنة للداخل والخارج فتستوجب مشاريع الإنقاذ الوطني ومقاربات التكتل التاريخي ومنظومات الهدنة السياسية والاجتماعية.

وليس تلويح بعض الأحزاب بمقولة “أين البترول” (وينو البترول باللهجة التونسية) إلا ميسما من مياسم الإفلاس السياسي وترويج المغالطات، ذلك أنّ تونس دولة الثروات الإنسانية والكفاءات العقليّة والذهنية والعلمية.

وكما هو من المفترض على كافة الأحزاب الشعبوية مراجعة خطابها الإعلامي والدعائي والارتقاء بمستوى الأداء السياسي عبر تجنّب ثقافة الاستثمار في أزمات الدولة الوطنية، فلا بدّ للفاعل الرسمي من التفكير جديا في مسار “الكتلة التاريخية” الواسعة، وذلك عبر إطلاق الحوار الاجتماعي والاقتصادي الواسع والتأسيس لوثيقة الإنقاذ الميثاقي.

دخلت تونس منعطفا خطيرا، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، فالاعتصامات تتكاثر ووتيرة الاحتجاجات تنتشر في جسم الجغرافيا الوطنية، والبدائل، سواء لدى السلطة أو المعارضات، أدنى من مستوى التطلعات وسقف الانتظارات.

والحل كامن في الحوار الوطني وفي كافة مخرجاته، التي جنّبت البلاد عاصفة 2013، وما عدى ذلك فإنّ تونس مقدمة مرة ثانية إما على سيناريو 2011 وإما على سيناريو 1987.
نقلا عن العرب