الاحتجاجات الاجتماعية صارت ظاهرة اجتماعية تونسية وجب التعامل معها أنثروبولوجيا، ثم سياسيا بأدوات اقتصادية وإدارية وتنموية.
ما تعيشه تونس هذه الأيام من اضطرابات واحتجاجات من الشمال إلى الوسط إلى الجنوب دليل على فشل كل المحاولات والتكتيكات السياسية نحو تحقيق هدنة اجتماعية طويلة المدى حلمت بها كل الحكومات التي تعاقبت على تونس منذ 2011 ولم تدركها. وكان اتفاق قرطاج الذي تم توقيعه في 13 يوليو 2016 بقصر قرطاج بإشراف الرئيس الباجي قائد السبسي يهدف إلى توسيع دائرة الحكم وإشراك الاتحاد العام التونسي للشغل في القرار السياسي. وكان الهدف العميق هو محاولة احتواء الاحتجاجات الاجتماعية والحد مما يسمّى المطلبية المشطة.
لكن رغم أن هذه الاحتجاجات لم تغيّر في شكلها ولا في تنظيمها ولا في طبيعتها ولا في شعاراتها، فإن السلطات التونسية لم تنجح في استباقها وتجنّبها. هناك خلل ما لا بد من البحث عنه ومناقشته حتى يمكن الحديث عن معالجة ممكنة لوضع اجتماعي صار فوق طاقة احتمال الجميع.
الخلل ليس في الجهات المحتجة فهي لا تمثل إلا تمظهرا لا يمكن تحميله تأويلات لا يحتملها ولا تساعد إلا على التيه عن المعالجة اللازمة والتناول الموضوعي للظاهرة. فهذه الجهات التي تحتج اليوم هي نفسها التي ثارت على فساد نظام زين العابدين بن علي وظلمه وتهميشه. وهي نفسها التي تحمّست لمن يحكمون اليوم ومنحتهم ثقتها وأصوات ناخبيها ليغيروا واقعها المتردي. وهو ما لم يحدث.
إن الاحتجاجات الاجتماعية صارت ظاهرة اجتماعية تونسية وجب التعامل معها أنثروبولوجيا، ثم سياسيا بأدوات اقتصادية وإدارية وتنموية. ومعنى أن نعتبر الاحتجاجات الاجتماعية ظاهرة أنثروبولوجية يعني كونها صارت لصيقة بالشعب التونسي، يكاد يتصف بها فتميّزه. لكنه لم يكتسبها اكتسابا ثقافيا كما هو معروف في ما يتعلق بالظواهر الأنثروبولوجية، وإنما فرضتها عليه الخيارات السياسية والاقتصادية المتطابقة لمن تداولوا على حكم تونس منذ الاستقلال وقبل الثورة وبعدها.
لقد تحدث سياسيو الائتلاف الحاكم باحتشام عن الهدنة الاجتماعية قبل توقيع اتفاق قرطاج أواخر حكومة الحبيب الصيد وزمن حكومة المهدي جمعة وحتى أثناء حكم الترويكا، دون أن يوضحوا ما إذا كانت الغاية من هذه الهدنة تحقيق مطالب الجهات المفقّرة في التنمية والتشغيل، أم مجرد الاستجابة لشروط المانحين الدوليين لتسهيل الحصول على القروض.
وأثناء مناقشة وثيقة قرطاج طيلة شهر يونيو 2016 صرح الجميع بضرورة تحقيق هذه الهدنة، وكان الاعتقاد السائد عندهم أن الاتحاد العام التونسي للشغل يمكن أن يقترب من دائرة الحكم ويقتنع بخياراتها ويدفع النقابيين إلى القبول بها وانتظار نتائجها. ولكن هذا التحليل يعني جهلا بطبيعة المنظمة الشغيلة والتعامل معها كأنها حزب يحكمه الولاء والطاعة، بينما هي منظمة ديمقراطية تحكم آلية الانتخاب كل هياكلها الدنيا والوسطى والعليا المحلية والجهوية والمركزية. وهو ما يعني أن قراراتها وخياراتها تتخذ بشكل ديمقراطي ضمن أطر الاتحاد وهياكله المنتخبة.
والغريب أن أحزاب الائتلاف الحاكم التي راهنت على إمكانية سحب الاتحاد إلى دائرتها ليؤدي الدور الذي فشلت فيه، لم تنجز المهمة التي كانت بين يديها وقادرة عليها والتي تتمثل في فك الارتباط بينها وبين المال السياسي. وهو ما يربك المسار السياسي السليم ويفسد الحياة السياسية ويقضي على ممارسة ديمقراطية أساسية هي التداول السلمي على السلطة عبر الانتخابات النزيهة والشفافة.
فالمال السياسي يتدخل في توجيه إرادة الناخبين وفي تزييف خياراتهم عبر الكذب والإيهام الذي تتولى مهمته وسائل الإعلام المملوكة من قبل المال السياسي أو التابعة للأحزاب المؤثرة والتي لا تكشف عن ثرواتها وأموالها وممتلكاتها.
فتونس تحتاج إلى فك الارتباط بين الأحزاب الحاكمة وبين المال السياسي والإعلام الدعائي. فهذا التداخل بين هذه المكونات هما من العوامل الرئيسية المفجّرة للاحتجاجات الاجتماعية التي تنفجر من رقعة إلى أخرى في تونس من شمالها إلى جنوبها، إذ أن المال السياسي يدفع الإعلام الدعائي إلى نقل صورة مفبركة مزيّفة على الواقع الجهوي لا تجد فيه الجهات نفسها ولا يعكس واقعها ومشاغلها وتطلعاتها. وللأسف وقعت تونس في هذا الأتون الذي كان قد نبه إليه فلاسفة الصورة في أوروبا منذ ثلاثة عقود، والمتمثل في التحالف الخطير بين السياسة والمال والإعلام.
لا أعتقد أن التحالف بين أحزاب الائتلاف الحاكم وبين المال السياسي والإعلام الدعائي مدروس جيدا، ولكني أعتقد أنه واقع فرضته عوامل موضوعية أهمها تراجع القوى الثورية في تونس وانكماشها بسبب نجاح حملات التشويه ضدها من ناحية، وتحريض السلطتين الأمنية والقضائية إضافة إلى الإعلام الدعائي ضد مناضليها وقواعدها.
ومن العوامل التي فرضت هذا الواقع أيضا ضعف دولة القانون والمؤسسات وهو ما قابله جدليا تنامي صلف المال السياسي والإعلام الدعائي. نتائج كل هذا كانت الابتعاد المتزايد عن مفهوم الدولة الأم والدولة الراعية لصالح مفاهيم بديلة، منها التزييف المقنّن الذي تتحكم في مقاديره أياد خفية تحسن إدارته ولها خبرة فيه لا سيما من أعوان نظام بن علي الذين تتنافس أحزاب المشهد الأول على انتدابهم في لعبة المداورة المستمرة على أهداف الثورة ومطالبها.
وليس الإعلان المتكرر على انتداب أعوان بن علي من وزراء سابقين ومنظرين سابقين وتكليفهم بمسؤوليات كبرى في أحزاب الائتلاف الحاكم، إلا مضاعفة لمنسوب الاستفزاز الموجه للجهات المحتجة.
ومما تحتاج إليه تونس التوقف الفوري لأحزاب الائتلاف الحاكم عن أداء دور الخصم والحكم في نفس الوقت. فنعاين ظهور نوع غريب من العمل الحزبي في تونس يتمثل في أن أحزاب الائتلاف الحاكم التي تعبّر الحكومة عن خياراتها وبرامجها تساند الاحتجاجات الاجتماعية في الكاف والقيروان وتطاوين وتشارك فيها بما يدخل على المشهد السياسي ما لا يحتمل من الالتباس والغموض. فأحزاب الائتلاف الحاكم تحكم وتحتج على حكمها.
طبعا هناك تفسير لهذا السلوك الحزبي يتمثل في كون هذه الأحزاب ترغب في احتكار المشهد السياسي برمته، وفي إبعاد المعارضة الحقيقية ومنظمة الاتحاد العام التونسي للشغل عن دورها الاجتماعي. ولئن كانت هذه الممارسة مفهومة فهي غير مقبولة بل إنها يجب أن تكون عرضة للمساءلة البرلمانية والقضائية.
أمام هذا الواقع المضطرب لا تملك الحكومة التونسية حولا ولا طولا بعد رهن إرادتها للجهات المالية الدولية المانحة. فهي تعاني من تأخر ضخ صندوق النقد الدولي للقسط الثاني من القرض الموجه إلى تونس والذي تبلغ قيمته 2.9 مليار دولار تحصلت تونس منها على قسط بقيمة 320 مليون دولار. ومازالت الحكومة التونسية رهينة تقرير بعثة صندوق النقد الدولي إلى تونس والذي سيكون حاسما في ضخّ القسط الثاني من القرض وقيمته 700 مليون دولار من عدمه. وفي الأثناء كرة الثلج تتقدم وتكبر.
نقلا عن العرب