23 ديسمبر، 2024 5:18 ص

توظيف الأمثال في القرآن ج/2

توظيف الأمثال في القرآن ج/2

“ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ”
لكل امرئ ما نوى وان نية الانسان تأتي من خلجات نفسه ومضامينها التي تنشئ مبناه الفكري، لتكون ركيزته في عمله ومحوره الذي يدور حوله. ويجب على الفرد دون المجتمع ومعتقداته، ان يخوض في المعرفة والعلم على ما يقدر ويتسع به فضاؤه، طالبا الزيادة في المعرفة من خلال عرض افكاره على الاخرين ومداولة الامر مع من يحسنون النصح والتشخيص. كما يفعل الانسان ببدنه وهو يعرضه على الاطباء والحكماء حفاظا على سلامته الجسدية. وكذا الالباب، يجب على الفرد ان يعرف ماذا يعتقد ويتبنى، وحتى تبقى حدائق فكره غناءة ومتنوعة، فعليه التفكر في ما يقال وما يحدث من حوله، وان كان ذلك عكس ما يظن او يتمنى. فالانسان ينظر الى ما يكسب وما يبني ويجني وينجب، دون ان يضع في حسابه ان كل تلك الامور يجب عليه إحياؤها بالمعرفة والادراك، لتملك الحس والوجدان فتخرج من صفة الجماد و البهيمية الى التكامل والارتقاء .وبامتلاكه هذه القدرات يستطيع ان يجعل قدرته الفكرية والمعرفية غير متجمدة او متحجرة، لكي لا يعبد صنما لا يراه او جبتا او طاغوتا. وبذلك يملك حرية الاختيار اولا.
ومن جهة اخرى، لا يقع في عقدة الكامل والناقص، وهي الحالة التي يعانيها اغلب الناس، ومنها تظهر جلية مع الانبياء والمعصومين والقدرات الخلاقة لبعض الناس من العلماء والمفكرين. وينسحب الامر الى ابعد من ذلك فيذهب الامر الى بعض المعادن والممتلكات ليكملوا نقصهم بها. وبدلا من ان يستفيد الناس من صفات الكمال في تلك الشخصيات المأمورة بخدمة المجتمع والحنو عليه والصبر على أساءتهم لها ،نجد الناس يحسدون ويدبرون المكائد لهم، ويفعلون كل ما استطاعوا لجعل تلك الشمس تغيب عن سمائهم، ليعشوا في ظلام دامس .وخير مثل اخوة يوسف الذين لم تهدأ نفوسهم، ولم يطب عيشهم حتى بعد طرد يوسف وابعاده عن ابيه .لكن الله له كلمة الفصل وكما قال تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ).فلله الكلمة العليا وهو متم نوره ولو كره الكافرون ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ). والانسان يفوّت على نفسه الفرصة في فهم الامور وادراك نفعها او مضرتها، عندما يتحجر او يتبع معية المجتمع، او ان يخاف امرا قصيرة مدته، او تغلبه نفسه وهنا محل الكلام في المثل الذي ذكرته الآية الكريمة انفا. مما يتضح من مفهوم الأية ان الارتباط العقائدي لا يقل اهمية عن الارتباط الاجتماعي، بل بالنتيجة هو اهم منه، فآثاره اخطر من الارتباط الاجتماعي. وتكرر الامر كثيرا في كتاب الله وسنته، مثل ابن نوح وابي لهب وغير ذلك كثير. وامرأة نوح او لوط خير مثل لمن لا يسمع، او يريد ان يسمع نداء الله، ففي بيوتهن يتلو الوحي آياته، والى ازواجهن تؤوب الناس في النائبات وامامهن المعجزات، لكن ما جبلت عليه نفوسهن من حقد وبغض فهو لله، وليس للأنبياء..! فلو كان للأنبياء فقط، لعطف الله عليهن آياته وسهل عليهن الامر، ففي امره سبحانه وتعالى للأنبياء والصالحين، ان يكونوا آباء لمجتمعهم رؤوفين رحيمين بهم، يتوددون لهم وكما توضح الآية في قوله تعالى ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ
كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾. لكن قبولهن بالحياة الدنيا دون الأخرة، وأتباعهن الشيطان في وساوسه وتشكيكه جعلهن مضطربات في حالهن، متذبذبات في امرهن، حتى قضي الامر وهن غافلات عن ذلك، يعلمن انه الحق، وتمنعهن نفوسهن المريضة والكبر، وما بني في نفوسهن جُعل عليه حاجز يحيل بينهن وبين رؤية الحق، ولم يكنّ جاهلات، بل هن اقرب من غيرهن للحق. ومن المؤكد انهن ازواج انبياء مخلصين صابرين طيبين، لا يخرج منهم ظلم. فقد حاول الانبياء ان يفكوا قيد الشيطان عنهن مرارا، ولكن عودتهن الى الذنوب واطلاع الاعداء على اسرار الأنبياء، كان يحول دون ذلك .فلم يغنيا عنهما من الله شيء. رغم الارتباط السببي والنسبي.
فعلى الانسان ان يبني نفسه بناء سليما، مستعينا بما افاض الله على انبيائه من كتب سماوية واحاديث، مهتدين بالمعصومين والعلماء الربانيين، لكي لا يضيع في زحمة المعروض من افكار تشبه السحر، وعليه ان يميز بين الحضارة والتطور العمراني، فالحضارة تعتمد على بناء النفس الإنسانية بمعطيات الخير .والتطور العمراني يعتمد على امتلاك القدر والمعلومة التي لا تأتي بالضرورة مع الاخلاق.