ليست الحكومة فقط هي التي تحتاج إلى تصحيح في رأيي، بل ربما كان إصلاح الحكومة مما ينبغي أن يكون خطوة لاحقة قياساً إلى ما يجب التعجيل به كخطوة سابقة تتعلق بضرورة تفعيل المطالبة بإصلاح ذواتنا وطرائق تفكيرنا كشعب عليه أن يتخلى عن الكثير من سلبياته بكلِّ جرأة ليتمكن من اللحاق بركب الشعوب التي تحصل على حريتها بوتيرة هي أسرع مما كنا نتصور بكثير، خذ على سبيل المثال شعوباً تخلصت من طغاتها مؤخراً ضمن ما صار يطلق عليه اسم الربيع العربي، فإنه مهما قيل من أن انتفاضات هذه الشعوب تعرضت للمصادرة مؤقتاً على أيدي بعض الأحزاب والقوى المتطرفة، فإن الواقع يشير إلى أنها قادرة على تصحيح مساراتها السياسية في زمن قياسي أيضاً، فتعود الثورة مجدداً إلى أحضان الشعب الذي صنعها وتحمل أعباءها، ولا يمكن لنا الزعم أن تصحيح المسارات إنما يحصل عن طريق القدر الإلهي الذي لا تسهم بصناعته الشعوب في تلك البلدان، فإن الطور الذي بلغه العقل البشري مؤخراً يأبى الاستسلام لهذا النمط من الاعتقاد بطبيعة الحال، ويفضل النظر إلى تحليل الكثير من الأمور في عالم الاجتماع والسياسة بواقعية أكبر، فيكون العامل المؤثر في وجود تلك الظاهرة هو نمط التفكير المهيمن على عقول النخب الثقافية والدينية والسياسية هناك، بحيث يشكل الضمانة الوحيدة لأن توجد تلك الظاهرة الإيجابية الطامحة إلى تصحيح المسارات كلما تعرضت للانحراف وتغيير الاتجاه في ظل ظرف سلبي قد يهيمن مؤقتاً على واقع الحال في تلك البلدان.
عشرة أعوام مرَّت على سقوط البعث في العراق، ولم نزل على ما نحن عليه سابقاً بل أكثر، نعاني ظلم وجبروت الحاكم، بل نعاني ظلم وجبروت كلِّ السياسيين في العملية السياسية القذرة الجارية في العراق، من دون أن تكون ثمَّة شريحةٌ واحدةٌ من المجتمع العراقي بمنأى عن هذا الظلم الشامل ومصادرة الحقوق، فما الذي يجعل موقف الشعب العراقي على هذه الدرجة من الضعف والهشاشة أمام الحاكم، فهل يُعقل أن المالكي أو أي رئيس ذهب أو هو آتٍ مستقبلاً أقوى من إرادة الشعب بحيث لا يمكن لهذا الشعب أن يجبر الحاكم على الخضوع لإرادته ولو مرَّةً واحدةً في موقفٍ يستحقُّ فعلاً أن يقدم الشعب فيه على المعارضة، أم ان هناك سبباً آخر هو الذي يجعل الحاكم قوياً إلى هذا الحدّ، في مقابل أن يكون الموقف الشعبي ضعيفاً إلى هذا الحدّ كذلك؟.
هل الشعب العراقي فاقدٌ للقدرة على معارضة الحاكم، أم أنه شعبٌ جبانٌ كما يقال، أم انه شعبٌ لا يمتلك الوعي السياسي اللازم الذي يؤهِّله لإجراء المعارضة في المواقف التي تستدعيها، أعلمُ أنَّ كلَّ تلك الأسباب ليست أسباباً موضوعيةً يمكن تقبُّلها بشكلٍ مطلقٍ لتعليل ظاهرة هيمنة الحاكم في مقابل سكوت الشعب أمامه، فالشواهد كلها قائمة على أن الشعب العراقي قادرٌ على المعارضة بدليل أن الساحة الشعبية العراقية لم تهدأ فيها الأوضاع التي توفر قلقاً للحكومة في عموم المرحلة التي أعقبت سقوط البعث حتى الآن، كما ان الشعب العراقي ليس من الصحيح وصفه بالجبان ما دامت المواقف العديدة أثبتت أنه ليس كذلك، بل هو واحدٌ من أكثر الشعوب إزعاجاً وحركيةً ومشاكسةً في التأريخ حتى ضربت به الأمثال، وكذلك لا يمكن أن يقال إن الشعب العراقي شعبٌ جاهلٌ إلى درجة أنه لا يرتقي إلى مستوى شعوب عادية في المنطقة بل ربما تفوَّق عليها الشعب العراقي إبداعاً وثقافةً بحيث يكون بالقياس إليها سماءً سابعةً إن كانت تلك الشعوب تحتلّ مراتب السماء الأخرى بطبيعة الحال.
إن العلة الأساسية التي تحول دون أن يكون موقف المعارضة قوياً دائماً ليست ذات عاملٍ واحدٍ في تكوينها، بل إن ثمة عوامل كثيرة تشترك في إيجادها، ويمكن الإشارة إلى بعضها في الآتي:
العامل الأول: هو أن الشعب العراقي لم يتفهم حتى الآن نوع العلاقة التي تربطه بالحكومة من جهة، والعلاقة التي تربطه بالحوزة كقيادة دينية عليا يجب طاعتها من جهة ثانية، فتولد من ذلك موقف شيزوفريني صدم الشارع العراقي في البداية، ثمَّ أدمنه فيما بعد، فلم يعد يأبه به من الأساس، فإذا ما تولدت لديه قناعة بتقصير الحكومة أو فشلها أو انحدارها إلى أبعد مستويات الانحاط في الأداء السياسي لم يفكر أبداً بالاعتراض الجدي الملموس الذي يحدث أثراً في الواقع، بل اكتفى بإدانتها في أحاديث جانبية لا تقدم ولا تؤخر، منطلقاً في موقفه السلبي هذا من قناعة معلنة أو مضمرة بأن للمرجعية وحدها الحق في إعلان المعارضة، وبما أن المرجعية لم تتخذ موقفاً ملموساً، أو لم تدع الجماهير إلى معارضتها فإن المصلحة لا بدَّ أنها تقتضي السكوت وتحمُّل كل تلك المظالم والرضا بالحال على ما هو عليه مهما كان سيئاً، في حين أن الموقف الإيجابي يتطلب من الشرائح الاجتماعية العراقية أن تعتنق فكرة المعارضة والاحتجاج بالوسائل التي يتيحها الفضاء الديمقراطي مهما كان مشوَّهاً وغير مقنع، ثمَّ يأتي دور المرجعية بعد ذلك في تبنِّي مطالب الجماهير ومساندتها لهم في مواجهة الحكومة، وهذا هو ما حصل بالفعل في مظاهرات 25 شباط، فإذ انطلقت التظاهرات في عموم العراق لم تجد المرجعية العليا مع كلّ المرجعيات الصغيرة المنضوية تحت لوائها بداً من إعلان المساندة للجماهير ضدَّ الحكومة حتى ولو ظاهراً، بل إن الضعف دبَّ في حكومة المالكي واقعاً منذ ذلكالتأريخ، وتمَّ دقُّ الإسفين في تابوت العلاقة بين المالكي ومرجعية السيد السستاني حتى الآن.
العامل الثاني: جميع الأحزاب المهيمنة الآن في المشهد السياسي العراقي لم تنشأ عن حاجة فعلية لقراءة الواقع العراقي الراهن، بل إن جميعها تقريباً تستند إلى تأريخها الجهادي السابق الحقيقي أو المزعوم، ولا ينطبق ذلك على الأحزاب الدينيبة فقط، بل ينطبق أيضاً على الأحزاب العلمانية بذات الدرجة، تأسيساً على ذلك، فإن فلسفة الاستحقاق الانتخابي على استناداً إلى تأريخ التضحية ما زال مهيمناً على الرؤية السياسية العامة في ذهن الناخب العراقي كما هو في الأفق العام لتلك الأحزاب، فلا تجد أحدهم يحدِّثك عن أنه يمثل حلاً واقعياً للمشاكل على مستوى الأمن أو الاقتصاد أو الاجتماع… إلخ، بل ترى الجميع يحدِّثك مستنداً في الواقع إلى التأريخ الجهادي والتضحوي لحزبه، وبناءً على ذلك فإنه في نظره يستحقّ أن يكون صاحب السهم الأوفى في حكم العراق.
العامل الثالث: ترتب على الوضع السابق أن لا توجد أهداف وطنية عليا يتبناها الجميع ويدافع عنها الجميع كذلك، بل إن جماهير كلِّ حزبٍ حتى لو كانت على قناعة مطلقة بأن هناك مطلباً شرعياً يخصُّ الشعب العراقي كله يتبناه طرفٌ سياسيٌّ آخر فإنها لا تتحمَّس له، ولا تتبناه أو تدافع عنه أو تساند ذلك الطرف من أجل تحقيقه، انطلاقاً من قناعات مسبقة بأن ذلك الطرف يريد تجيير ذلك المطلب لمصلحته السياسية الخاصة، أو استناداً إلى حقدٍ موغرٍ في الصدور مستندٍ إلى أحداثٍ حصلت في السابق على ذلك الطرف، أو ما إلى ذلك من المبررات التي ليس من الضروري أن تكون مقنعةً من الناحية المنطقية للآخرين، إذ يكفي في نظر أتباع طرفٍ سياسيٍّ ما أن تكون مقنعةً له هو سواءٌ على أساس عاطفي أو عقلاني، لا يهمّ، المهمّ هو أنها تلبِّي حاجةً نفسيةً يشعر بها وكفى.