تورغينيف كان المسؤول الاول لتدشين تمثال بوشكين في موسكو العام 1880 , التمثال الذي لازال يعدّ النصب الاول لبوشكين في روسيا لحد الان , ولازال يقف شامخا في ساحة بوشكين في مركز موسكو ( انظر مقالتنا بعنوان – تماثيل بوشكين في موسكو ) . لقد ألقى تورغينيف خطابا حول بوشكين اثناء الاحتفال بتدشين ذلك التمثال لا يقل اهمية في تاريخ الادب الروسي عن خطاب دستويفسكي في تلك المناسبة ( انظر مقالتنا بعنوان – خطاب دستويفسكي عن بوشكين ), ولازالت المصادر الروسية عن بوشكين تستشهد ببعض المقاطع من هذا الخطاب التاريخي لتورغينيف .
يرى بعض الباحثين , ان عمل تورغينيف ونشاطه الكبير في تنظيم تمثال بوشكين يعدّ رمزا فريدا في تاريخ الادب الروسي , اذ ان تورغينيف توفي عام 1883 , اي ان تمثال بوشكين هو آخر عمل كبير قام به , والرمزية في ذلك تكمن , في انه اختتم حياته بعمل يرتبط باسم بوشكين و تخليده بهذه الصورة. والحديث عن رمزية تخليد بوشكين من قبل تورغينيف يرتبط بقصة طريفة جدا ( لا يعرفها القارئ العربي على ما نظن ولم يسمع بها بتاتا ), وتدور حول خاتم كان بيد بوشكين عندما توفى , وقد نزعه من يده في تلك اللحظة الشاعر الروسي جوكوفسكي ( الذي كان يقف مع مجموعة من أقرب اصدقاء بوشكين حوله وهو يموت ) ووضعه في اصبعه , وبقي هذا الخاتم في اصبع جوكوفسكي الى لحظة وفاته , وبعد وفاة جوكوفسكي قرر ابنه ان يهديه الى تورغينيف ( لا نعرف لماذا , ولكن على الاغلب ان ذلك كان بتوصية من أبيه , وذلك لان تورغينيف كان آنذاك واحدا من الادباء الروس الكبار ) , وقد وضع تورغينيف خاتم بوشكين في اصبعه عندما استلمه من ابن جوكوفسكي , وبعدئذ, اوصى تورغينيف ان يمنحوه بعد وفاته الى تولستوي ( .. باعتباره أعلى من يمثّل الادب الروسي .. وليقرر تولستوي نفسه لمن يمنحه عندما تحلّ نهايته …) . عندما توفي تورغينيف في فرنسا , قدّمت بولينا فياردو (حبيبته الفرنسية , و المشهورة قصة حبهما الغريبة!) الخاتم المذكور الى المتحف التابع لمدرسة ( الليتسيه ) , التي درس فيها بوشكين , وقد تم – مع الاسف الشديد – سرقة الخاتم المذكور عام 1917 , عندما حدثت ثورة اكتوبر. وهكذا ضاع خاتم بوشكين , و لم تتحقق وصية تورغينف بشأن ذلك الخاتم . لهذا نعود ونقول , ان تمثال بوشكين ( الذي كان تورغينيف على رأس لجنة تنظيمه ) هو الشاهد الوحيد الآن , الذي لازال قائما على الارض الروسيّة ويؤكد على حب تورغينيف لبوشكين وارتباطه الروحي والفكري به .
قصة الدور الكبير الذي لعبه تورغينيف باقامة تمثال بوشكين في موسكو , وقصة الخاتم الذي كان في يد بوشكين ثم انتقل الى يد تورغينيف , هي في الواقع احداث ( خارجية ) ان صح التعبير , وبالتالي , فانها لا تمتلك ارتباطا بصلب الموضوع الاساسي حول تورغينيف وبوشكين , اذ ان جوهر الموضوع يكمن بالطبع في الحديث عن جوانب انعكاس ابداع بوشكين في مسيرة ابداع تورغينيف , والجواب عن سؤال كبير وهو – هل توجد ملامح بوشكينية او ( أنفاس بوشكين!) في نتاجات تورغينيف , وهل يمكن القول ان تورغينيف هو استمرار لخط بوشكين الابداعي في مسيرة الادب الروسي؟ وكيف يمكن اثبات ذلك ؟ وتلك هي القضية كما يقولون . يتذكر الباحثون الروس قول غانجيروف عن بوشكين عندما يتناولون موضوع تورغينيف وبوشكين , اذ قال غانجيروف – ( .. ان بوشكين هو الأب بالنسبة للفن الروسي , مثل لامانوسوف , الذي هو الأب بالنسبة للعلم في روسيا …), ويتذكرون ما كتبه تورغينيف الى ابنة بوشكين ,عندما اختارته لاعداد رسائل والدها الى والدتها , اذ وافق تورغينيف على تنفيذ تلك المهمة بكل سرور وفخر , وكتب اليها يقول , انه يعتبر نفسه ( …منذ نعومة أظفاره تلميذا عند والدها….وانه لازال يعتبر نفسه هكذا لحد الان …) .
تناول النقد الادبي الروسي منذ القرن التاسع عشر موضوعة تورغينيف وبوشكين , وكتب حتى بيلينسكي ( الذي توفي العام 1848) حول نتاجات تورغينيف المبكرة جدا قائلا – (… يجد الكثيرون فيها.. محاكاة بوشكين …) , ومن الطريف ان نذكر هنا , ان الباحثة الروسية المعاصرة دوبينينا قد ناقشت اطروحة دكتوراه فلسفة العام 2011 في جامعة موسكو التربوية بعنوان – ( التقاليد البوشكينية في ابداع تورغينيف 1840 – بداية 1850 ) , وما بين بيلينسكي في النصف الاول من القرن التاسع عشر الى دوبينينا في العقد الاول من القرن الحادي والعشرين توجد عشرات من الكتب والدراسات والبحوث والمقالات والملاحظات , التي تتناول موضوعة تورغينيف وبوشكين, ونختتم مقالتنا بجملة ( كنموذج لذلك ) وردت في خطاب دستويفسكي التاريخي عن بوشكين , عندما قال عن تتيانا لارينا (بطلة رواية بوشكين الشعرية يفغيني اونيغين), انها رمز لشخصية المرأة الروسية لم يتكرر بعد بوشكين في مسيرة الادب الروسي عدا ليزا في رواية عش النبلاء لتورغينيف …