اكثر ما يثير الدهشة والاستغراب عندي هم الدعاة بالأمس لحمل السلاح بوجه المحتلين والغزاة وجيوشهم المدججة وهم يدركون حجم تفوق الغزاة بالعدد والعدة ويفخرون بما حققته من انجازات وانتصارات وبدورها الفاعل في تحقيق انسحاب الهزيمة والمواجهة العسكرية ، لكنهم اليوم بعد تحقيق هذا الانجاز في مسيرة التحرير الشامل والكامل ، يستبقون الزمن ليتخذوا من واقعة هذا الإنسحاب مبررا لإشهار او تلبية نداءات المصالحة الوطنية الخادعة والمشاركة بالعملية السياسية المتهاوية ولا يترددوا ان يشهروا ويتبنوا مشروع الفدرالية ويعتبرونه حلا اضطراريا لتفادي شرور سياسة سلطة مركزية منصبة وحكومة ناقصة وارهاصات ميليشيات وقوات الجيش البديل لأنها تستهدف مكون السنة خوفا على هذا المكون من الانقراض والتهميش ! .
قنوات فضائية وتجمعات وتشكيلات ودعاة وكتب واقراص حاسوبية ومقالات وطروحات واصوات نواب واجتماعات مجالس محافظات ومظاهرات وتشكيلات جديدة تنشط للمطالبة بالأقاليم والجميع يبررونها اما بالنصوص الدستورية التي رفضتها الجماهير بحملة الاستفتاء او بحماية المكون ، كل هذا يتم لتمرير حل اضطراري لمحافظات يسودها مكون سواء هذا او ذاك ترى ماهو الحل للعاصمة بغداد وللمحافظات المختلطة وبنفس الوقت تنشط وجوه جديدة وتشكيلات جديدة تطرح نفسها للدخول بالعملية السياسية من خلال رفضها للأقاليم وتبني مواقف المالكي الأخيرة والمعلنة برفضه الترويج للأقاليم وتطرح نفسها انها بديلة للوجوه السياسية المشاركة بالحكومة ضمن إطار تحقيق المصالحة الوطنية ! كل هذه الطروحات لا يغفلها الشعب المنكوب ولها مبرراتها الدفينة ودوافعها الذاتية وجميعها غثاء وزبد يطفو ويختفي ، لانها لا تلامس الواقع ولا تنصب بمصالح الشعب وهولاء الراكضون الجدد لن يكونوا افضل من سابقيهم أداء أو نزاهة حين يمسكوا السلطة والحال هو مجرد تبادل ادوار في مسلسل الأكاذيب إبتداء من المحاصصة ثم الشراكة ثم الاغلبية السياسية ثم اكذوبة وثيقة الاصلاح واكذوبة مجلس السياسات واكذوبة مبادرة أربيل وانتهاء بالمؤتمر الوطني .
وفيما تستمد السلطة الحاكمة شرعيتها المزعومة من خلال دستور كتب في ظل احتلال امريكي يعترف المتسلطون انفسهم بثغراته القاتلة لكنهم مقيدون بنصوصه التي ثبت عدم قدرتهم على تغييرها لاحقا ، وانتخابات يعترف اقطابها بزيفها قبل غيرهم وحكومة شراكة مفروضة مكشوف دعمها بتوافق امريكي واقليمي وتتفاقم أزمات هذه السلطة وصراعات اقطابها بما ينذر بتهافتها وانهيارها ، تبقى فصائل المقاومة الوطنية وقوى المناهضة والحراك الشعبي تستمد شرعيتها واستمرارها من استمرار حالة الاحتلال والهيمنة الاجنبية وهي تستهدف فلوله المنهزمة عسكريا وعناصره المتبقية والمتسترة بعد الانسحاب العسكري بغطاءات متعددة واقعيا وتعلن مرارا وتكرارا رفضها للإحتلال والتصدي لنتاجاته المقيتة ومنها الدستور وكامل عمليته السياسية.
المقاومة استراتيجيا فكر يقاوم الاحتلال والتقسيم والطائفية ولا يمكن باي حال من الاحوال خروج المقاومين والمناهضين عن هذه الثوابت أو بعضها مما يعني الخروج منها والإنقلاب عليها. والجمع بالمتناقضات في سلة واحدة حالة افتراض واهم وزعم كاذب ودس مفضوح للسم بالعسل وادعاءات السلطة بتبنيها مشروع مصالحة وطنية خدعة بانت فضيحتها بما آلت إليه حال قيادات هذه الشراكة من مهتارات واختراقات وفضائح والمقاومة التي أرغمت جيوشا مدججة وكاسرة على الانسحاب، لا يمكن ان تتبنى خطاب الأقاليم والتقسيم بمبرر الاضطرار لحل بديل أمام تصرفات وسلوكيات سلطة منهارة وصولات جيش بديل وميليشيات لطالما وصمت بالضعف ونقص التسليح والكفاءة !!. والمقاومون الصامدون ليسوا عطشى لإلقاء السلاح بمجرد انسحاب عسكري نوعي ليكونوا طعما لعصابات الشركات والمخابرات والمليشيات المحلية والإقليمية والأجنبية .
المقاومون الصامدون ليس لديهم تعطش للمشاركة في عملية سياسية خرقاء فاشلة ومنهارة بعد ان قطفوا أول ثمار ما أنجزوه من خلال هزيمة نوعية بانسحاب عسكري غير مخطط له معروفة أسبابه ومكشوفة ، لأنهم يدركون جيدا ان المهمة القادمة بعد الانسحاب تتمركز في كيفية الخلاص من مخلفات هذه العملية السياسية التي ابتدعها الاحتلال على أسس واهمة ولن يتم الخلاص من الاحتلال بشكل كامل الا من خلال التأسيس لعملية سياسية وطنية ترتكز على دستور جامع وانتخابات نزيهة ومسخ الطائفية التي يعتبرها الطائفيون اليوم هي الهوية والقضية ! وا أسفاه!!.
المقاومون الصامدون قاوموا الاحتلال لأن الاحتلال دمر وقتل وافسد ومزق ولأن الاحتلال كتب دستورا فاسدا تشظويا واسس سلطة محاصصة طائفية و عرقية وفتح الحدود وغض الطرف عن احتلالات لازالت تتحكم بمصير العباد والبلاد ومنها ما هو أشد من الإحتلال العسكري خطورة و مرارة وهو حجم النفوذ والأطماع الأجنبية الأقليمية والصهيونية المتوغلة بالساحة العراقية .
المقاومون في العراق لم يختاروا طريقهم حبا بالسلاح وتعطشا للدماء ، انهم يقاومون بجهاد الدفع مضطرين للقيام بواجب شرعي و وطني وهو حل اختارته كل الشعوب المحتلة عنوة او طمعا او عدوانا وبضمنها شعوب ليست مكلفة برسالة سماوية او شرعية بواجب المقاومة والجهاد كما هي حال العرب والمسلمين لقد قاتل اليابانيون والفيتناميون اعدائهم بدوافع وطنية بحتة وقدموا تضحيات هائلة اصبحت مضرب الامثال بالبطولة لكل الشعوب المتحررة والتواقة للتحرير وكان تاج ازالة اثار خسارة الالمان لحرب عالمية شنها قائدهم هتلر مع حلفاءه بدوافع هيمنة وتوسع هو تحقيق الوحدة الالمانية بين المانيتين خلفتها هذه الحرب ذاتها ولم تكن ازالة الجدار وتحقيق الوحدة بلا ثمن في الارواح والاموال استمرت طيلة حالة السلم بعد توقف الحرب لعقود من الزمن .
نعم المقاومة والمناهضة حل اضطراري حين لا يرعوي الغزاة والمعتدين عن غيهم وعدوانهم الا من خلالها وهذا هو شأن مقاومتنا العراقية الباسلة ، أما الفدرالية في العراق وفي ظل ظروفه الراهنة وتواجد الاحتلالات المتعددة فيه الظاهرة منها والمستترة وفي ظل دستور كتب بوجود المحتلين وإشرافهم يقر بها ويشرعنها ، لا يمكن ان تكون حلاً جذريا لشعب فاقد السيادة والحصانة بقدر ما هي مشروع انبطاحي احتلالي تقسيمي دموي يحسبه المقاومون جزءا من مشروع الاحتلال واهدافه ولا يمكن ان تكون حلاً إضطراريا يعالج اجراءات سلطة مركزية متفردة بالقرار بقدر ما هي مشروع دموي يهمش دور المقاومة الباسلة ويجرف مسيرتها واهدافها ويستهدف وحدة العراق وتقسيمه بشكل دائم لا يمكن العودة عنه لو انه تحقق . خيار الفدرالية ان كان فيها إصلاح إداري وسياسي يجب ان يكون من موقع قوة وبحبحة وأمن وأمان لا من موقع ضعف واستسلام وعنف وفساد ، المناداة بها في ظل الاحتلال وحالة التشظي والانقسام وفقدان الأمن والفساد التي تطفو على واقع العراق ، تعني انها مشروع تقسيم ونزاع وصراع وأطماع وضعف ودمار. كيف يمكن أن نهضم تنظيرا أو تبريرا سواءً كان شرعيا أو وطنيا لمن يدعون انهم مقاومون ويروجون لمشروع الفدرالية والأقاليم في دولة كالعراق لا يتردد الغزاة له والمحتلون فيه أن يعلنوا جهارا نهارا إن نفوذههم فيه باق وفاعل حتى بعد أن انسحبوا منه عسكريا ويصح القول ذاته حتى لمن لا يعترف بوجود عسكري له على ارضه من جيرانه ومتنفذ فيه بوسائل مستترة؟، وأي سيادة هذه والعراق لا يزال خاضع لبنود الفصل السابع من فصول الهيمنة الدولية من خلال هيئة الأمم والتي تتناقض بشكل واضح مع ما يدعيه المتسلطون فيه بأنه يتمتع بكامل السيادة والإرادة في حين انه لا يتمتع بقدرة الهيمنة على موارده وأمواله ؟.
إن التناقض بين ثوابت المقاومة ومشاريع الفدرلة والتقسيم والأقاليم في ظروف العراق بعد احتلاله واضح كوضوح التناقض بين من ينسب لنفسه صفة المقاوم والمناهض للاحتلال ويوهم نفسه بتبرير المشاركة بعملية سياسية متهاوية او استلام سلطة او منصب فيها من أجل مصالح ومكاسب ذاتية او شخصية وكذا الحال في من يروُّج لنزع سلاح المقاومة بدعوى أن الاحتلال قد انتهى ويندرج في مشاريع ما يسمى بالمصالحة الوطنية خدعة ومكراً مع بقاء مخلفات الاحتلال الدستورية والقضائية والتشريعية والتنفيذية وبقاء وتفاقم سياسة التهميش والاجتثات والمحاصصة والميليشيات السياسية المشرعنة وفقدان التوازن والتفرد الطائفي في ظل سلطة بوليسية وأمنية ودكتاتورية فردية واضحة تترسخ بالترافق الزمني في خطابات تهديد وتدخل ونفوذ اقليمي تطلق وتمارس بلا تردد وبشكل متواتر مع تحقيق إنجاز الانسحاب العسكري الامريكي المعلن .
في عراق ما بعد الانسحاب العسكري الامريكي المعلن الذي أسفر عن حالة انهيار وخيبة الفشل السياسي وتفاقم الصراع الطائفي والتفرد بسلطة استبدادية بوليسية واحتلالات اقليمية بديلة ظاهرة ومستترة ، ستبقى المقاومة فاعلة على ثوابت التحرير لأن مشروعية بقائها قائمة لن تلحق الأذى الا بالمحتلين ومشاريعهم وسيبقى الحراك الشعبي والفعل الجماهيري السلمي تعبيرا ناطقا ينشد الإصلاح والتغيير في ظل غياب حلول جذرية سياسية وطنية كان ممكن ان تتمحور بمشروع وطني جامع تحرري يغنينا عن السلاح والمقاومة والحراك والمناهضة في هذه المرحلة لو كانت هناك خطوات جادة لإحداث التغيير ، فيما تحسب كل خطابات تهافت الأقزام لنزع سلاح المقاومة واندراجها في عملية سياسية منهارة ومصالحة وطنية خادعة ودعوات اقامة اقاليم على ضوء نصوص دستور الاحتلال الخائب مشاريع فاشلة تخدم الاحتلال وتنصب في تحقيق أهدافه اللاحقة وتتقاطع وتتعارض مع فكر المقاومة واهدافها ، ولعل أخطر هذه المشاريع وبالاً على الامة هو الانسياق خلف الخطاب الطائفي المقيت ومحاولات تمرير دعوات التهافت هذه تحت غطاءه ، وهذا مطب قاتل لشعبنا و وطنيتنا لا نهاية له ولا آخر نرجو الله ان ينجي شعبنا من آفته ، (وداوني بالتي كانت هي الداء ) .