تنميط الآخر وسطحية السرد: قراءة في الاسترجاع الدرامي لظاهرة داعش في البصريات العراقية

تنميط الآخر وسطحية السرد: قراءة في الاسترجاع الدرامي لظاهرة داعش في البصريات العراقية

في كل موسم درامي عراقي عند حدود شهر رمضان تتمظهر المعالجة الدرامية للظواهر الاجتماعية-السياسية في الفضاء السردي الصوري العراقي المعاصر كإشكالية بنيوية تستدعي تحليلاً سيميولوجياً عميقاً لآليات التجسيد والاشتغال الرمزي في النص المرئي. إن ارتكاز المنجز الدرامي العراقي على استثمار حقبة تنظيم داعش كمادة خام للسرديات المتلفزة يضعنابتضاد بنيوي فكري أمام ما يسمى نقدياً بـ”العالم الممكن سردياً” ذلك العالم الذي يتشكل وفق قوانين جمالية خاصة تتجاوز التوثيق لصالح التخييل الفني.

     حيث تتجلى المفارقة الدرامية في الأعمال العراقية المعنية بظاهرة داعش من خلال ما يمكن تسميته بـ التنميط المفرط ” للشخصية الداعشية، حيث تنحصر ملامح التمثيل البصري في ثالوث شكلاني قسري: الهيئة المبتذلة قصداً، والوجه الكالح المظلم إضاءياً، واللغة العربية المنمطة استشراقياً. هذه الاختزالية السيميائيةتؤدي إلى ما يسميه “رولان بارت” بـ”إفراغ الدال من مدلولاته المتعددة” فتتحول الشخصية من كائن درامي متعدد الأبعاد إلى أيقونة سطحية تحيل إلى مرجعية واحدة ثابتة.

     كما يتبدى الخلل المنهجي الأكثر تجذراً في هذه الأعمال على مستوى ما يسمى بـ”الحبكة الدرامية المؤجلة” حيث نلحظ غياباً شبه كامل للصراع الدرامي المتنامي لصالح ما أسميه “التصفيد السردي” وهو مصطلح أستعيره من واقعية الطرح الدرامي بعد تحويله لمفهوم نقدي،حيث تتراكم المشاهد دون نسغ درامي يجري فيها، فتبدو الأعمال أقرب إلى تسجيل توثيقي ممزوج بحماسة وطنية مفتعلة منها إلى بناء درامي متكامل.

     إن الإشكالية الكبرى في المعالجة الدرامية العراقية لظاهرة داعش تكمن فيما يسمى بـ”أفق التوقع” لدى المتلقي، فالتكرار النمطي للصور والمواقف ذاتها يخلق حالة من “التخدير الإدراكي” تؤدي إلى انحسار التأثير الوجداني والفكري للعمل الفني. فبدلاً من توظيف ما يسميه “بريخت” بـ”تقنيات التغريب” لخلخلة وعي المتلقي وإعادة تشكيله، تعتمد هذه الأعمال على استدرار استجابة عاطفية مباشرة ومؤقتة.

     يمكن القول إن الدراما العراقية المعنية بظاهرة داعش تعاني من تشيؤ العمل الفني” حيث يتحول من نص جمالي متعدد الأبعاد إلى سلعة استهلاكية تستثمر في الراهن الزمني السياسي والاجتماعي دون تقديم خطاب فني متماسك. وهذا ما يفسر تراجعها تقنياً وجمالياً مقارنة بالإنتاج الدرامي العربي الآخر.

     ليس من المنطقي أن تختار صناعة الدراما العراقية التوقف عند “الحدث الصادم” وتكراره حتى الاستهلاك، متجاهلة تماماً ما أسماه الروائي العراقي فؤاد التكرلي “الحياة السرية للمدن العراقية” تلك الحياة النابضة بالتناقضات والجماليات والصراعات الإنسانية العميقة.

     في زاوية مظلمة من الذاكرة العراقية الجمعية، تقبع فترة داعش كجرح غائر لم يلتئم بعد. فترة اكتسحت فيها موجة من الظلام البشري أرض الرافدين، مخلّفة وراءها دماءً وخراباً ودماراً. ليس غريباً إذن أن يصاب المتلقي العراقي بما يُمكن تسميته “التخمة البصرية والوجدانية” من تكرار استحضار هذه الفترة في الأعمال الدرامية المحلية.

     وتوافقا مع سوزان سونتاغ عند جزئيات مفهوم “أخلاقيات المشاهدة” تبرز ثمة مسافة نفسية دقيقة بين تذكّر الألم كعملية شفاء جمعية، وبين استهلاك الألم كمادة درامية متكررة. ما تفعله الدراما العراقية اليوم هو تحويل الجرح المفتوح إلى “موضوع” مستهلك يتكرر بذات التفاصيل المقززة: اللحى الكثة، الأزياء السوداء، المشاهد الدموية، نبرات الصوت المتطرفة. وكأن المخيلة الدرامية العراقية أصيبت بما يمكن تسميته “عطب الذاكرة الإبداعية” فباتت عاجزة عن تجاوز هذه اللحظة الكابوسية.

     حين يصبح القبح عنصراً أساسياً في العمل الدرامي، يتحول المشاهد إلى ضحية مزدوجة: ضحية الحدث التاريخي نفسه، وضحية استهلاكه الدرامي المتكرر بصور باهتة فيتضاعف الألم والنفور. يتمظهر هذا القبح في المستوى البصري (الأشكال الداعشية بتفاصيلها المنفرة) والمستوى السمعي (الأصوات الحادة والخطاب المتطرف) والمستوى القيمي (منظومة عنف وكراهية).

     هذا الإلحاح على تقديم القبح يُمثل “خطأً إدراكياً” في الصناعة الدرامية العراقية، إذ يفترض أن تكرار عرض القبح سيؤدي إلى إدانته، بينما الحقيقة أنه يؤدي إلى تطبيع القبح نفسه، وتحويله من استثناء صادم إلى قاعدة مألوفة.

     حين تُصرّ الدراما العراقية على استعادة هذه اللحظة المظلمة، فإنها تُعيد إنتاج نفس عملية التشيؤ، ولكن هذه المرة في المخيال الدرامي. فالضحية تُختزل في صورة نمطية للمعاناة، والجلاد يُختزل في صورة نمطية للوحشية، والمتفرج يُختزل في صورة نمطية للعجز.

     بصمت أقول أنا المتلقي العراقي: “كفى! لقد عشنا الكابوس مرة، فلماذا تجبروننا على مشاهدته مرات ومرات؟” هذا الملل ليس مجرد استجابة جمالية، بل هو موقف نفسي عميق من استهلاك حدث صادم تحوّل إلى سلعة درامية رخيصة.

     لقد آن الأوان لما يمكن تسميته “انعطافةسردية” في الدراما العراقية، تتجاوز منطق “استثمار الكارثة” إلى منطق “استكشاف الجوهر”. والجوهر هنا هو تلك الحكايات الإنسانية العميقة التي تشكل النسيج الحقيقي للمجتمع العراقي – حكايات الحب والفقدان، الهوية والانتماء، الموت والحياة، المقاومة والاستسلام – كلها موضوعات إنسانية كونية يمكن تقديمها من خلال التجربة العراقية الخاصة. إن أعظم ما يمكن أن تقدمه الدراما ليس استعادة لحظات الرعب والقبح، بل استكشاف جماليات الروح الإنسانية في أقسى الظروف وأكثرها تعقيداً. هذا ما فعلته التجارب الدرامية العالمية الكبرى: استخلصت الجوهر الإنساني من التجارب التاريخية المعقدة. العراق بحاجة إلى دراما تتناسب مع عمق تجربته الإنسانية المذهلة – دراما تحتفي بتعقيدات الروح العراقية وتناقضاتها وجمالياتها، لا أن تختزلها في صور نمطية تبعث على النفور والتقزز. دراما تليق بأرض الرافدين وكثافة تاريخها وغنى ثقافتها. ربما آن الأوان لأن يقول المبدعون العراقيون: “نعم، لقد كان داعش هنا، لكن العراق كان هنا قبله، وسيبقى بعده. وإبداعنا سيكون شاهداً على هذا البقاء، لا على ذلك الخراب”.

     وأخيراً. فليسمع صنّاع الدراما صوت المتلقي العراقي الصامت، وليعيدوا التفكير في مقولة الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو: “كتابة الشعر بعد أوشفيتز وحشية” ليتساءلوا: هل تكرار صور الوحشية نفسها على الشاشة وحشية أخرى؟ وكيف يمكن للفن أن يتناول الفظائع دون أن يقع في فخ استهلاكها أو استسهالها؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن توجهه الدراما العراقية لنفسها في المرحلة المقبلة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات