23 ديسمبر، 2024 4:21 م

تنرجس الذات فوق حلميات ( أثر كفي) – 1 / قراءة تأويلية في شعر علي لفته سعيد

تنرجس الذات فوق حلميات ( أثر كفي) – 1 / قراءة تأويلية في شعر علي لفته سعيد

قد يبدو اقتحاميا، القول إن الفضاء الاجتماعي الاقتصادي، في الثقافة المعاصرة، قد نقل الحلميات المعهودة الى مستوى مختلف من حيث الأجهزة الإنتاجية وفلسفة النظر. فدخول الحداثة والسلعة المصنعة والصورة، التكنولوجية والالكترونيات والاتصالية، عامل قد غير في الوعي والعقلية ومعنى العجز البشري. اختلفت الردود والمشاعر والاستجابات في مواجهة القواهر والعلاقة السياسية والاقتصادية مع الحقل والسلطة والمعرفة. تجاوز الإنسان المعاصر عقدة الضحية، ودور المظلوم أو القاصر؛ يثور على الفقر والتخلف وشتى الإكراهات مشاركا في بناء ذاته وضبط تواصليته. ليس صعبا القول إن تلك التغيرات قد حولت عمقيا وشسوعيا الحلم، وتفسير معانيه.
في(أثر كفي)بغداد /2013 مجموعة الشاعر العراقي المبدع علي لفته سعيد، نجد أمام ظاهرة الحلم، التي تحدت الفكر وأقلقت وجود الإنسان، يقف التفسير أمام لغز محير متناقض يلعب على ساحة المحظور والحلال، الحرام والواجب. فتارة يتعدى الحلم على الشرعي، وأخرى يتسامى، أو يتخاتل. يحقق المشتهى، لكنه قد يؤلم الراغب. ينير لنا أعماقنا، أو يكون مثاليا، يغرق أو يغوص في الغامض. ينفذ المناقض للقيم، ويأتي الأعمال اللامقبولة.. يقفز فوق الواقعي والسببي، وينقل الى المستقبل البعيد كما الى الماضي السحيق.
الشعراء من اقدر المفكرين الذين ولجوا دنيا الرموز، ساهموا في صياغتها، هي لا واعية في أحيان جمة. الشعر ركيزة وحمالة؛ دليل ومخزون، تاريخ تجارب صادمة أو ناجحة، موئل آمال محبطة أو محققة، صريحة أو معتمة، إنه نقالة رموز، ولغة إبداعية، نص وتجربة.
قراءة نص من الناحية السيكولوجية يفيد في تعقب البنى العميقة والأسئلة المطروحة. الرحلة في قيعان الإنسان والشاعر علي لفته سعيد، وعالمه الظلي، محفوفة بالظنون.القراءة المنفتحة، تطرح السؤال، تقلق الوعي، وتمنع القراءة المسطحة التي تغرق في المغلق الراكد وتترك المطمور(أنا أخاف..موت المؤذن في داخلي 48) لماذا؟. 
تنتفع كثيرا النبويات، في الفكر والممارسة عند الإنسان المعاصر، من سيول الحداثة. النبويات ترضى اليوم بما سبق أن ارتضاه أسلافنا وحاوروه. فقد وافقوا قديما، علينا الموافقة على أن قطاعا غير يسير داخل التراث أنتجت فكرا رائعا، بغير أن تتطرف في معادات التراثي والروحي. كذلك يمكن أن ترفع خطابنا في الإنسان والعقل والمستقبل باتجاه الانفتاح ثم المحاورة للأديان والحكمة..
التماهي بهذا النبي، أو ذاك الرسول، أو بمرحلة من مراحل دعوته، هو تماه هادف لامتصاص فكرة، أو لتجسيد مبدأ، للتعبير عن حال كما عن رغبة أو تحقق، تغطية أو مثل أعلى للاقتداء، عون للمخيال، أو غذاء للاعتقاد. فكل نبي يرمز الى مقام أو إدراك، رغبة بالصعود والتحقق والتكيف، بالتطهر والاغتناء الروحي إبان لحظة تاريخية أو شروط مجتمعية معينة.( ياسليمان لم استطع معك صبرا 15)، نوح سفينة العوم على الطوفان(لا أحد يصعد معك بسفينتك..لن أكون لك زوجا من اثنين 17 )، موسى(أنا الذي حملت عصاه أدلة لمنبع الماء الزلال 27 )، يعقوب سلم الصعود الرامز للحسرة…يوسف المتعالي عن الخطيئة والمتعامل مع أبناء يحسدون أخاهم الأصغر ويقعون في الغيرة ثم في العدوانية والطمع باحتكار قلب  الوالد، فهل وفق الشاعر في مرموزاته الملغزة باحتكار مجتمعه من قبل اخوة يوسف..؟(إن فاتنتي زليخة..وأنا يوسف ..قبل أن تقطعوا أيديكم..بسكاكين الدهشة 20).
قصة يوسف كما يعرضها القرآن تنتمي الأحداث لظاهرة اللغز في الحلم اليوسفي بينما في النصية الشعرية(أنا الحناء المطبوعة على الأبواب..أنا أثر كفي 25)..
  يوسف هو نفسه صاحب الرؤيا، بطلها وراويها لأبيه، بينما بطلها الشاعر(أنا يوسف)ويرويها لمجتمعه.
مر يوسف بمحك الجنس لغزا تمثل في شخص زليخة، المرأة التي قال عنها القرآن إنها ذات كيد، تغلب يوسف حين دخل السجن، بينما الشاعر(إن فاتنتي زليخة.. أنا الحالم..ما عاد يمهلني الحلم سوى الحلم 22).
رؤيا يوسف وهو بعد في البادية، تلك الرؤيا التي استهلت هذه القصة القرآنية ودخول يوسف على النساء وتقطيع ايديهن بالسكين لكن الشاعر(أرموا سكاكينكم.. 28 ).
اختتمت قصة يوسف بدعاء في حمد الله على ما أيده الله به من صادق الرؤيا بينما صوت الشاعر(هي آية لم تنزل من عرش السماء
وأنا الحالم بالسنبلة والقبلة والضوء 25 ).
يحتل تأويل الأحلام مكانة فريدة بين أساليب السيطرة الخرافية على المصير في مجتمعنا العراقي والعربي. فالأحلام تتصف، بأنها نابعة من الذات، لكنها تعبر عن الواقع الخارجي وما قد يخبئه، فهي تقيم الصلة بين الذاتي والخارجي. تشير الى مقدار تلون الواقع بالذاتية والرضوخ للقوى الخارجية في آن معا. انها تجمع بين العلامات النذر أو البشائر. تأويلها يحتل مكانة مرموقة بين وسائل استشفاف المستقبل(إزجل عطاياك للعرافة..كي تنبؤك بتأويل 95 ).
لذلك، من خلال القراءة التأويلية، للمجموعة الشعرية، نجد عناصر:
العنصر الأول: الشاعر استطاع أن يؤنسن مكانا تبعث فيه الحيازة الفعلية بخطى متدرجة. اخضع كل من اليد والفكر لأساليب التحقيق بالتقارب المتتالي بالتوفيق بين حركات عمل يديوية قبل أن تكون بصرية(..أنا أثر كفي 25 ).
كانت أولى حركات الإنسان أن يمد يده ليستولي على ما كان يشتهيه..الكلمة والفكر واليد مترابطة بشكل تصبح فيه الكلمة اليد التي تنفذ على مدى الفعل نفسه.
هناك نزعة لا تقهر تحرك تجسيم الإنسان الذي يبقى دائما جوهر كل قصيدة. تكون شكلنا المورفولوجي الذي يمدنا بنماذج لوحداتنا القياسية: الكف.هذه الخطوة تؤسس لقياسات، أول أداة من جسمه، تمسك كل شيء وبالإمكان إمساك الإنسان منها باعتبارها أداة كشف عالية التحسس ومنتجة للإشارة والترميز والبصمة..المتميزة التي تجمع المجالات الدماغية المحركة بروابط الحس والنطق حيث تسمح للكف بأن تبين للإنسان الذي يكتب ويفكر.
أن الكف في النص هو العضو الذي يشكل نقطة محورية، يستحوذ على المتخيل أو الفكرة، يكون ذلك الاستحواذ المتسلط كامنا، غير حاضر في الوعي، مقيد للإرادة.
العنصر الثاني: أحلامنا، الى جانب تغذيتها بهمومنا الراهنة والمستقبلية، كثيرة العودة الى الذكريات، الى العلائق الآثارية السحيقة فينا. نتعرف في القطاع الحلمي على لا وعينا الثقافي. معبر عن حياة ألهذا و الأنا ومكشاف للاهتمامات والمحظورات.
ينبث الحلمي في الوعي، نعثر عليه في الشعر والقطاع القداسي، نلتقطه في المعيوش والشفهي. هو حي فاعل في حياة الإنسان والثقافة، كما هو كامن في التأرخة والإدراك والكلام. محرك في الإبداع والفن والأغوار، مكشاف الظلي في السلوك والعقل، في المعنى والتواصلية.
يبدو الحلم(في أثر كفي)تسوية، حل ودي؛ إنه لا يمرر رغبة، أو يخفض توترا، إلا تطبيقا لأواليه غير مباشرة, نقل الأسفل الى أعلى.
أدى وظائف واضحة، القراءة تنقب عن المدلولات التابعة والهاجعة، المخاتلة أو الممسرحة، المقنعة. 
هموم المستقبل حيال المصير حيث الحلم يتأثر ويتفسر بما هو قلق على مستقبل الأنا و الذات، توقعات استباقية وحذر من الشرور، حتى جاءت الصياغة الشعرية للتعبير، قصدها التكثيف.
العنصر الثالث: وراء النص العلني المنرجس للذات (الأنا) يختفي جرح عميق، أو اختلال في التواصلية لا يتأخر في الظهور ولا يستطيع البقاء مقموعا في العتمة واللامنطوق.يتكشف في تعقب محدد..للتمأزق والانجراح (أنا ، اناي ، أني..إلا أنا 128 ).
بالنتيجة، الشاعر حلمه الكبير ولادة مجتمع خالي من الاحباطات.
اما عن ذكر عدد من الأنبياء لتجانس رسالاتهم في أحقية إنسانية الإنسان في الحياة وعدم تدميرها، المقاربة مفهوم افلح الشاعر بالاشتغال عليه.
ليس في استطاعة الإنسان أن يحبس نفسه هذه رؤيا الشاعر، فإن قطب(الأنا)لا يستطيع أن يعيش إلا في علاقته بقطب(الغير).أن الشعور الفردي لا ينطوي على أي انفصال مطلق عن عالم الغير الذي هو من مقومات وجودنا الإنساني. وسواء أكان الغير هو(الخصم)الذي اصطرع معه وأتمرد عليه، أم كان هو(الصديق)الذي أتعاطف معه وانجذب نحوه ولا املك سوى أن احدد وجودي بإزائه.
ان التجمع مع الغير لم يكن دليلا على ضعف الأنا، إنما هو في جانب كبير منه تراث اجتماعي تعاقبت على تكوينه الأجيال التي نسميها الغير(أنا الروح..أنا حالم ..أنا قابض..أنا عاشق..أنا صادق..أنا باسط كفي30 .. ) وصولا الى (أكاد أنت.. 38 ).
إن اللغة الشعرية التي صاغت الحلميات في المساحة النصية، على صعيد معيوش و مدون أقرب الى العقل والمحاكمة، هي لغة تدخل الى عمارة التاريخ والثقافة تذيب الفرد في النحن.
قراءة الوعي في مواجهته للحلم في مجتمعنا يغدو ممكنا استيعاب معنى التحول في الثقافة، والانتقال الى نمط حداثوي في التفكير والمحاكمة للعقل والأخيولة.
أن التمسك بالنظرة الثابتة، تمسك بالمسبق الواهي، وإقصاء للوعي المدقق بعقلانية.الثوابت والمسلمات، تحتاج باستمرار لنظر يعيد النظر فيها، ويحاكمها( كن نبيا 95 ).
قبول المختلف، ومتعدد المعاني، لرفع المستوى الثقافي والاجتماعي (اتركي كل الأماكن لتقد قمصاني..من قبل ومما تشاء..61 ).