اختياري لعنوان مقالتي هذه لم يأتي من فراغ وإنما جاء بعد نظرة شمولية لما لهذا الموضوع من أهمية كبيرة، إذ تعتبر السعودية بلد مهم على المستوى الإقليمي والدولي، ولها تأثیر كبير علی الإقليم بأكمله، وما يحصل حالياً بين واشنطن والرياض ليس الا إنعكاساً لرؤيتين متناقضتين للتحولات الكبيرة التي تشهدها المنطقة.
طرأ في الاشهر الأخيرة تسارع كبير وغير مسبوق في الإتصالات بين الرياض وواشنطن، ويبدو أن وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، أصبح مصدر قلق كبير للإدارة الأميركية، إلى درجة يصعب معها ترك المسألة من دون معالجة، ومن هنا أصبحنا نسمع أصواتاً من داخل البيت الأميركي تعبر بكل صراحة عن مدى كيفية حلّ هذه القضية، وسط انقسام بين مَن يدعون إلى تصعيد الموقف بوجه ابن سلمان، ومن يفضلون العمل على تهدئة مخاوفه، طارحين جملة إجراءات يمكن للولايات المتحدة تفعيلها فوراً من أجل حل مشكلة تمرّد محمد بن سلمان، منها دعم تغيير في قمّة هرم السلطة في المملكة، أو عملية تغيير سياسي في السعودية.
تسببت العقوبات الغربية التي فرضت على روسيا بعد غزوها لأوكرانيا في إحداث عدم التوازن في اسواق الطاقة العالمية من حيث ارتفاع الأسعار وبالتالي حظر النفط الروسي من قبل التحالف الغربي.
لذلك سارعت أمريكا بعد حظر واردات النفط الروسي الى إقناع حلفائهما التقليديين بفتح صنابير النفط بأقصى طاقتها حتى تحصل الأسواق العالمية على إمدادات كافية وتنخفض أسعار النفط، لكن ابن سلمان، لم يبد أي التزام في هذا الشأن، بل وحاول استغلال فرصة عطش الغرب النفطي لانتزاع العديد من التنازلات والمكاسب السياسية والاقتصادية من أجل ترسيخ مكانته في المنطقة.
من خلال ذلك تريد الرياض أن توجه رسالة إلى واشنطن بأنها قادرة على إنتهاج سياسة إقليمية خاصة بها من دون التقيد بالضرورة بما تريده أميركا، وإنها متجهة نحو المعسكر الروسي الصيني.
بالمقابل يدرك الرئيس الأميركي جو بايدن أن بن سلمان متمسك بسياسة ليّ الذراع، ولن يتراجع عن التزام بلاده باتِّفاق “أوبك بلاس” النفطي طويل الأمد مع روسيا، إلا إذا حصل على ما يكفي من التنازلات من البيت الأبيض بما يحقق مصالح السعودية.
يذكر أن صحيفة “واشنطن بوست” قالت في تقرير لها إن بن سلمان هدد أمريكا بـ”ألم اقتصادي كبير”، وسط نزاع نفطي، لافتة إلى أنه بعد تعهد الرئيس الأمريكي بايدن، “بتوبيخ” السعودية لقرارها خفض إنتاج النفط وسط ارتفاع أسعار الطاقة هدد بن سلمان بشكل خاص بقطع العلاقات بين البلدين، والانتقام اقتصاديا، وانطلاقاً من ذلك وعد بن سلمان بالرد على أي إجراءات تتخذها أمريكا ضد المملكة بفرض عقوبات اقتصادية كبيرة على أمريكا، وهنا تراجع بايدن ولزم الصمت.
في الصورة الأكبر، الشرق الأوسط يعيش الآن في حالة من التحالفات وإعادة ضبط أنظمة التحالف المعروفة والقائمة، فالتنسيق بين سورية والسعودية ومصر ومختلف الدول العربية ضد السياسة الأمريكية قد يثير قلق واشنطن، والاصطفاف العربي -العربي قد يعطي هذه الدول أسباباً للعمل المشترك.
وفي السياق ذاته إن الرياض ماضية في إستعادة مكانتها المستقلة عبر تنويع علاقاتها وشراكاتها وتحالفاتها دون الإعتماد على الآخر، وبالتالي لم تعد أوراق اللعبة السياسية في يد الأمريكيين، وإنما أصبحت في يد السعوديين، فقد انتهى عهد التبعية، وباتت الرياض تسعى لإقامة علاقات متوازنة مع جميع الدول تحكمها المصالح المشتركة، دون قبول أية ضغوط أو إملاءات، وسوف تتعامل السعودية بإحترام مع من يحترم إرادتها الشعبية، ومن هنا ستشهد الفترة القادمة جهوداً في إتجاهات عدة نحو الصين من خلال شراء طائرات مسيرة وصواريخ باليستية وصواريخ كروز وأنظمة مراقبة من بكين، ولهذا كان رد الفعل مثيراً لقلق واشنطن وتل أبيب، ومن المتوقع محاولتهما بأدواتهما المختلفة عرقلة وإفشال بناء القوة والتنمية السعودية، بإثارة الفتن والاضطرابات والعمليات الإرهابية والحملات الإعلامية والمقاطعة الإقتصادية.
وأخيراً ربما يمكنني القول إن الأيدي المرتعشة لن تصنع وتبني وطناً مستقلاً قادراً على حماية شعبه، لذا يجب على القيادة السعودية أن تتخلى نهائياً عن مفهوم التبعية لأمريكا، وأن تبنى دولتها على أساس التلاحم الحقيقي مع محيطها العربي والإسلامي.
خلاصة القول: اليوم تمر أمريكا في مرحلة مفصليّة من إعادة رسم تحالفاتها في المنطقة، بما في ذلك السعودية الذي يبدو أنّها لم تعد تملك قدرتها وخبرتها على فهم تطورات الأحداث فيها، بعدما كانت صانعة لأحداث المشهد في منطقة الخليج، و تعيش في الوقت الراهن أسوأ مراحلها من حيث خسارتها لأكبر شبكة تحالف صنعتها لعقود طويلة.