تم تدشين تمثال غريبويديف في طهران عام 1912 , اما في موسكو فقد تم تدشينه عام 1959 , والفرق الزمني بين التمثاليين حوالي نصف قرن تقريبا , وهي ظاهرة فريدة وغريبة جدا في مسيرة الادب الروسي , لم يسبق ان حدثت في روسيا مع اي شخصية بارزة اخرى في تاريخ روسيا الطويل , وقصة هذا الحدث الغريب تستحق التوقف عندها بلا شك , لانها ترتبط بمؤلف المسرحية الشعرية – (ذو العقل يشقى) , المعروفة في تاريخ الادب الروسي والادب العالمي ايضا ( انظر مقالتنا بعنوان – مسرحية غريبويديف الشعرية – ذو العقل يشقى ).
غريبويديف كان سفير روسيا في طهران , وقد تعرضت السفارة عام 1829 الى هجوم من قبل قوى اسلامية متطرفة جدا ( وليس بمعزل عن الايادي السياسية الخفية وخططها غير النظيفة وراء الكواليس طبعا ), وتم قتل كل من كان في السفارة من موظفين روس وحرّاسهم , بما فيهم السفير الروسي نفسه , بل وتم التمثيل بجثثهم , وقد تعرّفوا على جثة غريبويديف نتيجة جرح قديم في يده بعد مبارزة حدثت في مسيرة حياته.
حاولت الدولة الفارسية رأسا تسوية هذا الحدث المأساوي الرهيب مع الامبراطورية الروسية في حينها بالطرق الدبلوماسية الهادئة, وارسلت وفدا كبيرا الى روسيا برئاسة حفيد الشاه , واستطاعت فعلا تسوية الموضوع بعد مفاوضات طويلة و معقدة وصعبة , وقد قدّم الوفد هدايا فارسية نفيسة للجانب الروسي اثناء تلك الزيارة, منها قطعة ألماس نادرة جدا وسعرها خيالي كما تشير المصادر كافة , وزنها حوالي 18 غراما ( 90 قيراطا) , ولا زالت هذه القطعة الفريدة من الالماس معروضة – ولحد الان – في متحف الالماس الموجود في الكرملين بموسكو , ولا زالت تثير الاعجاب الهائل من قبل كل من يشاهدها , وهو نفس الاعجاب والدهشة , التي أثارتها قطعة الالماس تلك لقيصر روسيا آنذاك عندما قدّمها الوفد الفارسي اليه عند استقباله لهم في مقر عمله .
مقتل السفير الروسي غريبويديف عام 1829 في طهران كان حدثا سياسيا هائلا في تاريخ الامبراطورية الروسية خاصة , وعلى المستوى العالمي ايضا , ولهذا , فقد تراجعت مكانة الشاعر والكاتب المسرحي غريبويديف واصبحت في ( المحل الثاني ) حسب التعبير الشهير للمتنبي , وقد انعكس هذا الشئ واقعيا على الجالية الروسية الكبيرة في بلاد فارس قبل الآخرين , وهكذا ولدت لديهم فكرة تخليد هذا الحدث , وقرروا اقامة تمثال لغريبويديف بالذات عند بناية السفارة الروسية في طهران لاعادة الاعتبار اليه وتخليد اسمه, وأخذوا بتجميع التبرعات من ابناء الجالية, وهكذا تمكنوا من تهيئة المبالغ اللازمة لعمل التمثال, واستطاعوا ان يحققوا خطتهم , وتم تدشين هذا التمثال الضخم للسفير عام 1912 فعلا قرب بناية السفارة الروسية في طهران حيث جرى الهجوم الغادر المذكور . غريبويديف في ذلك التمثال يجلس على كرسي فخم و يقرأ كتابا مفتوحا يمسكه بيده اليمنى ويتكأ على الكرسي بيده اليسرى, وهو تمثال رمزي عميق المعنى , و يؤكد , ان السفير الروسي والكاتب والشاعر غريبويديف مستمر بعمله وابداعه رغم تلك النهاية التراجيدية التي اصبح ضحيتها , ولايزال هذا التمثال موجودا في مكانه بطهران لحد الان . وهكذا استطاعت الجالية الروسية عن طريق هذا التمثال تخليد غريبويديف , والتذكير الدائم بتلك الوقائع التراجيدية والمجزرة الدموية ضد السفارة الروسية هناك, والتي قام بها المتطرفون الاسلاميون و القوى السياسية الاخرى الحليفة لهم في طهران عام 1829 .
اما تمثال غريبويديف في موسكو (التي ولد فيها عام 1795) فقد ظهر كما أشرنا أعلاه عام 1959 في الذكرى 130 لمقتله التراجيدي في طهران عام 1829 , وقد أقاموه قرب المكان الذي عاش فيه الكاتب في موسكو . حاول النحات لهذا التمثال ان يوحّد بين الصفتيين التي تميّز بهما غريبويديف وهي – الشاعر والكاتب المسرحي اولا , والدبلوماسي الرفيع المستوى ثانيا , وهكذا جاء عمله الفني في فضاء واسع حيث يقف السفير الروسي بكبرياء وفخامة وشموخ , وعلى قاعدة التمثال يحيطونه ابطال مسرحيته الخالدة – ذو العقل يشقى , وهم شخصيات لا زالت حيوية وتتعايش مع المجتمع الروسي منذ ظهور هذه المسرحية في القرن التاسع عشر ولحد الان , اذ لا يمر موسم مسرحي في مختلف المدن الروسية دون عرض هذه المسرحية , وتحولت أقوال تلك الشخصيات الى أمثال وحكم لدى الشعب الروسي , وحتى عنوان المسرحية نفسه اصبح قولا مأثورا عند الروس , وترجمته الحرفية عن الروسية هو – المصيبة من العقل , وقد ترجمه بعض المترجمين العرب هكذا فعلا, الا انه استقر بالعربية ( ذو العقل يشقى ) بفضل المتنبي العظيم (انظر مقالتنا – غريبويديف والمتنبي).