اقامة تماثيل لابطال النتاجات الادبية – ظاهرة طريفة في تاريخ الادب العالمي بشكل عام , وهي ترتبط – مثلا – في ادبنا العربي بنتاجات شعبية واسعة الانتشار, مثل الف ليلة وليلة , وليس بادباء محددين , ومن لا يعرف – بين العراقيين – كهرمانة والاربعين حرامي في قلب بغداد , او شهرزاد وهي تروي حكاياتها المثيرة لشهريار , ولكن هذه الظاهرة ( اي المرتبطة بنتاجات ادباء محددين بالذات ) لا توجد – حسب علمنا المتواضع – في ادبنا العربي , وهي نادرة جدا في تاريخ الادب العالمي بشكل عام , وتاريخ الادب الروسي خصوصا , اذ اننا نجدها هنا وهناك بعض الاحيان ليس الا , فيوجد مثلا تمثال شهير لبوشكين في روسيا وهو يجلس على مصطبة وينظر بتأمّل وهدوء واعجاب الى بطل روايته الشعرية المعروفة يفغيني اونيغين , الذي يقف – وبغرور – ليس بعيدا عنه , وهناك ايضا تمثالان ( وليس تمثالا واحدا !) في مدينة بطرسبورغ لقصة غوغول الطويلة – ( الانف ) , وتوجد كذلك تماثيل مصغّرة ( وفي غاية الجمال والاتقان) لابطال النتاجات الادبية على قواعد تماثيل بعض الادباء الروس الكبار , مثل تمثال غريبويديف الضخم في موسكو( لابطال مسرحيته الشعرية المعروفة – ذو العقل يشقى , او المصيبة من العقل حسب الترجمة الحرفية ) , او تمثال غوغول ( تم افتتاحه عام 1909 في الامبراطورية الروسية بمناسبة مرور قرن على ميلاد الكاتب ) , والذي نقلوه من مكانه الاصلي ,وهو يقف الان امام متحفه بموسكو ( لابطال مسرحيته الشهيرة – المفتش ) …الخ..الخ , ولكن تماثيل ابطال قصص تشيخوف في روسيا اصبحت عديدة ومستقلة بحد ذاتها ولا ترتبط بتماثيل تشيخوف الشخصية بتاتا , وهي منتشرة في عدة مدن روسية , وتعني هذه الظاهرة – بلا شك – شعبية هذه القصص الواسعة , وتقبّل القراء الروس لابطال تلك القصص لدرجة , ان هذه التماثيل اصبحت تجسّد ظاهرة واضحة ومتكاملة و ملموسة ومقبولة جدا في الحياة الثقافية الروسية المعاصرة , ويتعاطف معها جمهور كبير من المشاهدين والمعجبين , بل واصبحت تمتلك حتى بعض (التقاليد!) المحددة والطريفة , مثلا , ان لمسها باليد يعني ان ذلك اللمس يمنح للشخص التفاؤل بالنجاح والتوفيق في اداء مهمته , التي يتوّجه لتنفيذها ( وخصوصا يقومون بلمس تلك التماثيل الطلبة الروس قبل اداء الامتحانات بالاساس !!! ) ….الخ…الخ .
نحاول في مقالتنا هذه التحدّث للقارئ العربي عن هذه الظاهرة الغريبة , والفريدة فعلا , ونحاول ان نتوقف قليلا عند تلك التماثيل الجميلة , التي ترتبط بابطال قصص تشيخوف , اذ ان تلك التماثيل تعدّ حقا علامة حقيقية مادية محددة لشهرة تشيخوف وابداعه بين الاوساط الشعبية الروسية , والتي تؤكّد الحقيقة الكبيرة عن تشيخوف , وكيف انه اصبح يقف الان – وبكل جدارة – جنبا لجنب مع تولستوي ودستويفسكي , اذ ان هؤلاء الثلاثة يجسّدون الادب الروسي بكل عظمته محليّا ( اي في روسيا نفسها ) , ويعتبرون رمزا رائعا لهذا الادب العملاق في كل بلدان العالم ايضا .
توجد لقصة تشيخوف الشهيرة ( السيدة ذات الكلب الصغير) , مثلا , عدة تماثيل في مدن روسيّة مختلفة, واول هذه التماثيل – النصب الطريف والفريد من نوعه في مدينة يالطا , والذي اصبح الان (مرادفا!) لبطلي تلك القصة وهما يقفان ( دون منصّة ) على ارض شارع في مركز تلك المدينة , حيث يتكأ البطل على حافة سياج , وتقف السيدة مع كلبها الصغير غير بعيدة عنه , ومن الواضح تماما , ان النحّات درس نص القصة بعمق , وحاول التعبير عن جوهرها بعمله النحتي هذا , اذ انه جسّد بطل القصة ( وهو محاكاة لتشيخوف نفسه) و يقف حائرا ومتأمّلا , ولكن قريب من البطلة , أما هي , فقد جسّدها واقفة مع كل ماضيها ( ملابسها الجميلة وتسريحتها وكلبها الصغير) , ولكنها لا تستطيع ان تنطلق مع حبها الحقيقي , اذ انها لا تستطيع الانفصال عن ماضيها , ويقف هذا النصب غير الاعتيادي في شارع عام وبين الناس الذين يعبرونه ( كل حسب جهته) , وحتى مكان النصب تم اختياره بدقة ورمزية واضحة , اذ انه يذكّر الناس كافة , ان الحب الحقيقي والمتأخر يقف في طريق عبورهم الابدي بين جوانب الحياة , وهم لايستطيعون (التوقف عنده !) ولايستطيعون – في نفس الوقت – عدم رؤيته والاحساس به . وقد اقيم هذا التمثال الجميل في المدينة , التي جرت فيها بداية احداث تلك القصة , و هي القصة التي اعتبرها نابوكوف ( وهو على حق من وجهة نظرنا ) واحدة من أهم القصص في الادب العالمي عموما , وليس في الادب الروسي وحسب . التماثيل الاخرى , المرتبطة بهذه القصة تقع في مدن روسية اخرى , وتجسّد بطلة تلك القصة وحدها مع كلبها الصغير , فهي تقف مثلا في الشارع المحاذي للبحر في مدينة غيلينجيك على البحر الاسود في ساحة صغيرة قائمة بين الاشجار والزهور , وهو تمثال في غاية الرشاقة والجمال , وفي مدينة ليبتسك تقف تلك السيدة وكلبها الصغير في مدخل مسرح الدراما , و هناك تمثال جميل آخر لهذه القصة في مدينة آستراخان , حيث تقف السيدة حزينة وجنبها كلبها الصغير . القصة الاخرى لتشيخوف , والتي اقيم لها تمثالين , هي قصة ( البدين والنحيف , والتي كتبها تشيخوف عندما كان طالبا يدرس الطب !) , اذ يوجد تمثال في مدينة تاغنروك ( المدينة التي ولد فيها تشيخوف ) يجسّد النحيف منحنيا وزوجته وطفله خلفه من جهة ويقف امامهم صديق طفولته البدين , اما التمثال الثاني لهذه القصة , ففي مدينة يوجنوسخالينسك , حيث يقف البدين وامامه النحيف مرتعدا , ويمكن القول ايضا عن هذين التمثاليين , ان النحّاتين حاولا – وبعمق – التعبير عن الجوهر الحياتي العميق في تلك القصة القصيرة , اذ رسم فيها تشيخوف رعب الانسان البائس من الوقوف امام انسان آخر يعلوه في المناصب , بغض النظر عن علاقاتهما القديمة عندما كانا يدرسان في المدرسة معا , وصداقتهما الحقيقية آنذاك , وكم قابلنا في مسيرة حياتنا مثل تلك النماذج الجبانة , التي كانت ترتعد خوفا وهلعا امام هؤلاء الذين يشغلون مناصب عليا !
هناك تماثيل اخرى لقصص تشيخوف لا يسمح المجال للتوقف عندها , مثل قصته الشهيرة بعنوان ( كاشتانكا) , وهي القصة التي لازال القراء الصغار والكبار ايضا ( يلتهمونها !) لحد الان , القصة التي كتب ايرنبورغ عنها مرة , انه لا ينسى , ان والدته قالت له في طفولته بجزع وحزن حول وفاة تشيخوف – لقد مات مؤلف قصة كاشتانكا , وهناك تمثال لقصة ( انسان في علبة ) , و..و..و…
تماثيل ابطال قصص تشيخوف تشغل الان المكان الاول بين الادباء الروس , وهي ظاهرة فريدة تؤكّد ان تشيخوف لازال يتعايش – وبشكل حيويّ – مع الحياة الروسية لحد الآن , رغم انه رحل عام 1904 في الامبراطورية الروسية , ورغم التغيّرات الاجتماعية والسياسية الجذرية الهائلة , التي مرّت بها روسيا بعد رحيله …