22 نوفمبر، 2024 2:11 م
Search
Close this search box.

تماثيل تلتهم براعم

لمّا تذئبتْ النفوس انقلبَ الميزانُ وأصبحتْ القضبان رمز الحرّيّة ، والظلام رمز النور ، وطُوي الحق بلفائف من الباطل ، وأُعلنت دولة الذئاب.

**
سلمى تقصّ حكايتها .
البداية ..
تقول سلمى نقلا عن مدير الملجأ الذي تربت فيه منذ كانت طفلة ..
وجدني رجل شحّاذ على باب مسجد أصرخ من الجوع والعطش ، فذهبَ بي إليه وتركني مودعًا دامِعاً .
ثم قال .. خذْ هذا المولود يا “بيه”، ارعه واعتني به ، فإني رجلٌ لا أكاد أحمل نفسي.
فإني أجوع أكثر مما أشبع.
وأتعرّى أكثر مما أكتسي.
ولا أبيتُ إلا على جوانب الطُرقات.
وها أنتَ ترى عاهتتى .
وولّى مستاء وقد أجهش بالبكاء.

**
تفاصيل القصة …
نشأتُ في الملجأ .
الملجأ أرضه سلاسل في الأقدام ، وسقفه أغلال في الأعناق ، وهواؤه يحبس أنفاسي كأنما أصّعد في السماء.
وما كتمَ أنفاسي واختلجتْ فيه جوارحي وتململتْ فيه روحي أكثر من تردد سؤال يجلدني في كل ذرة من كياني كله
لماذا رمانى أهلى ؟
وتأتيني الإجابة بدمع وصراخ حتى أسقط متضعضعة وكأنّ شيطانا صرعني.
وأتساءل..
هل أنا بشرٌمن طين غير طين آدم؟
لعلني مررت بأطوار تكويني في رحم شيطان فطردتُ من أرض البشر .
ويكأنّ نفسي عفّتْ عنها من في الأرض ومن في السماء.
هل لُعنتُ لأني صرخت صرخة طفلة بريئة وعيناي لم تتفتح بعد !
هل رحموني وأنا لم ألتقم ثدي أمي بعد !
لكن لابد من إيجاد الأمل في فاه الشمس وبساط الأرض ، فما زالت عيني تبصر براعم الزهور تتفتح والارض تهتز وتربي من سقيا السماء بعد أن مزقها الجفاف.
لابد أُوجد كياني الذي يمثل فخري وفخر مجتمعي الذي آواني ، فليس كل الناس رؤوس شياطين ، وليس كل من يعوي من الطامعين.
لابد أكسررُغام اليأس والتشاؤم وأُعلو راية الأمل والتفاؤل.
لابد أن يكون اسمى أنا هو “بسمة وأمل وطموح وانتصار”.
وحضارة تنبعث من نفسي إلى مجتمعي مزدهرة ، هذا هو اسمي.
فعشت بخلقٍ واسع ، وتعلمت العلم النافع.
وغرزت الأمل فيمن معي من الفتيات مشيرة أنّ غدهنّ زواج وإنجاب في وطن سيحتضنهنّ كما احتضنهنّ في هذا الملجأ .

رشدتُ رشد أُولي الألباب وأنا في العشرين.
أُوتيتُ الرشدُ صبية ، فعلى الرغم أن الضبات كانت قوية إلا أنّ راية الانتصار كانتْ غالبة عليّة.
وخرجتُ من الملجأ إلى المجتمع .
فضاءٌ فسيح فيه الحرية والأمل ، ومرتع للطموح والنجاح والانطلاق .
أريد الأسرة الطيبة التي تمثل لبنة أبْنيها في صرح حضارتنا المتهالكة ، أو بذرة أنثرها في أرضنا البورالقاحلة.
أُريد إنجاب أولادٍ يكونون براعم صالحين .
أرعاهم وترعاهم رُعاتهم من حكام ومسئولين.
وقابلتُ الحلم .

**
فتيل القنبلة ….
وقابلت الحلم ، إنه ثروت .
تبدو عليه وسامة الخلق والحكمة ورجاحة العقل وأصل الدين.
..تبادلنا الحديث بعد لقاءات عديدة.
فكان نِعمَ الإنسان والحبيب والأهل ، وقال لي أني كذلك له.
وجاءتْ اللحظة الفارقة وسألته عن نفسي فقلت ..
أتعرف مَن أنا ؟
فقال لي أنتِ قلبي الذي حيا بعد الموات.
و عمري الذى أتى بعد الفوات.
ودمي الذي جرى بعد الثبات.
ومائي الذى أنهرَ بعد النفاد.
وسماء أستظل بها.
وأرض تقلّني من الانهيار.
وفضاء أسبح فيه طائراً كفراشات الأزهار، استنشق الرحيق والعطر وأتمتع بالجنان .
وعمري الذي مضى ومستقبلي الآت .
فأدهشتني عجلته ولم يمهلنِي الردّ وتركني ثم عاد ليقُول..
مفاجأة سلمى ، مفاجأة حبيبتى.
أبي وأمي وافقا على الزواج .
وأُعلمكِ أنّ أبي من الأثرياء ، و من ذوي القوة والسلطان .
واسمه ثروة ، كما كان جدي اسمه ثروتين.
فهلّا قابلتُ والديكِ !!
أُريد أن أرى قبس هذا النور الربّاني الأخّاذ….أين هما؟ .. أين هما ؟
فتكلمتْ دموعي وأصدق الكلام ضفائر الدموع الساخنة.
وتكلمتْ قطراتها لتقول يا ليت اسمكَ فقرٌ وأبوك اسمه فقريْن.
ورويتُ له قصتي ودموعى تنهمر ، لو انهمرتْ على حجر لتصدع خشية وتفتت على أرضه .
فامتعض وقطّبَ جبينه.
ورفع رأسه مستنكفاً ، وفغر فاه ، وأطلق قذيفته العمياء الحمقاء ، قذيفة التماثيل الصماء.
آفة القرن وكل القرون.
هي التقاليد التي يسبّحون بحمدها ليل نهار.
تقاليد توارثها الأبناء عن الأجداد .
التقاليد التي جسّدناها تماثيل في نفوسنا فذلتْ لها الأعناق ، كل الأعناق.
وكنتُ أنا سلمى قُربان من القرابين التي ترضي تماثيلهم.
وياويل أمثالي من هؤلاء المكفوفىّ الأبصار ، يا ويلي ، وويل كل الضعفاء .
وقذيفته قوله
“آهٍ يا بنت الملاجئ ،يا حمقاء ، يا أهل السوابق ، امضى إلى بنات الشوارع ،
أنا أنا أنا ، وأنتِ أنتِ أنتِ ، أنا ابن الناس وأنتِ بنت الملاجيء .
إني من عائلات لها أصول كأصول الجبال ، وأنتِ هواء يا بنت العدم والزواني.

انفجار القنبلة في وجوه الملائكة ..
عدوتُ من أمامه صارخةً باكيةً أرى من حولي…من حولي يحبون ..
الجمال وإنْ كان زائفًا.
والمظاهر ولو كانتْ كاذبة.
والمناصب ولو كانتْ طاغية.
والعائلات ولو كانوا جبابرة.
والأبنية العالية ولو كانتْ هاوية .
كانتْ حياتهم كلها “هذا “
تعبد كل هذا فأُصبح “هذا” أصناما تُعبد وتحكم وتشرّع وتحدد مصايرهم.
ألتهمتني تماثيلهم.
وستظلُّ تلتهم إن لمْ تستيقظ ضمائرنا.
أو تستيقظ ضمائر رُعاتنا ومسئولينا.
نسوا أن الله الذي خلق سلمى بنت الملاجئ ، هو من خلق الأميرة.
وأنّ الرحِم واحد والثدي واحد والخلقة واحدة .
والدم واحد ، كما أنّ الشمس تشرق للكل لا تفرق بين الأميرة وبنت الملاجئ.
مازلتُ أُعدو عدو الفارّين وكأنّ أشباح سادية تعدو خلفي.
أهرب بعيداً بعيداً أنتظر محطة أقف فيها وما أجد .حيث كل ما أراه أمامي ما هم إلا
أشباح الإنسانيّة.
وظلام النفوس الساديّة.
وضحكات السخرية ذات الأصوات الساخرة الفاترة المتأفّفة.
وحضارات من خيوط العنكبوت تسكن الحدائق قبل اليباب.
وسمعتُ أقبح عواء.
وفزعتُ من زمرة أسود ملكية.
وتصافّتْ الأفاعي لتفحّ في فمي سُمّاً ناقعاً.
وفجأة ، فجأة وجدتُ نفسىي بين أذناب الذئاب البشرية.
فاغتصبوني فرادى فرادى ، ثُمّ ضربوني وأطلقوني ولا غيّاث يُغيث.
أطلقوني بجسد عارٍ وملابس ممزقة.
وما جرأهم إلا أنني لم يكنْ لي درعاً أو حِمىً أو ظهراً .
ظللتُ أسير زاحفةً منَ الإعياء حتى بلغتُ الملجأ.

النهاية …
قابلني المدير فزعاً وقال ..مالك يا سلمى ؟
فأجبته قائلة ” الآن علمتُ لِمَ رماني أهلى “
الآن آمنت أنّ الفقراء يعيشون أمواتا خالدين ، وأن الضعفاء يعيشون أرقّاء خالدين ، وأن الحقّ يتزيّ بألف وجه ، وأن العدل لا يخرج إلا من أفواه ذوي القوة والسلطان.
وأن الميزان المقلوب لديهم هو الميزان القسطاس.
وأن …
وأشرتُ له أن يحملني إلى الداخل.
ولا أدري ، لاأدري أأشير له أن يحمل سلمى أم يحمل سلميْين أم ثلاث سُلميات.
لعلهنّ الآن يتبلورنّ في بطني، بطن الظليم والمظلومة.
بطون شوادن الغزلان التي لم تبلغ الحُلم وإنما بلغتْ حُلوق الذئاب.
وأشرتُ إلى حجرتي القديمة بيدي التي تطلب الغوث.
وأنا في انتظار أن يبذرني منادي الخير في أرض الفضيلة فأحيا بعد الموات ، وسأظل انتظر .. أنا في الانتظار .
إمضاء .. سلمى بنت الملاجئ

أحدث المقالات