بونين – هو آخر العنقود ضمن الاسماء العالمية الشهيرة في تاريخ الادب الروسي , العنقود الذي ابتدأ بالشاعر بوشكين في القرن التاسع عشر. ولد بونين عام 1870 في روسيا وتوفي عام 1952 في فرنسا , حيث كان لاجئا ( بعد ثورة اكتوبر1917 التي رفضها) و تم دفنه هناك . لقد عاش بونين في وطنه (50) سنة , واصبح اسما لامعا في مسيرة الادب الروسي , وعاش في فرنسا لاجئا( 32) سنة , و كان يعدّ هناك ابرز اديب روسي خارج روسيا , وحاز على جائزة نوبل للآداب عام 1932 ( وهو اول أديب روسي يحصل على هذه الجائزة ). لقد كان بونين طبعا من الادباء الروس المغضوب عليهم في الاتحاد السوفيتي , خصوصا في الفترة الستالينية , ولكن حذف اسمه في مسيرة الادب الروسي او عدم الاعتراف به لم تكن مسألة يسيرة , وهكذا عاد بونين جزئيا ( ان صحّ هذا التعبير) الى القارئ الروسي داخل روسيا السوفيتية آنذاك في الفترة التي استقرّت تسميتها بمرحلة ( ذوبان الجليد) بعد وفاة ستالين , لكن دون الاشارة طبعا الى جائزة نوبل او مواقفه الفكرية الواضحة والصريحة بالنسبة لثورة اكتوبر, بل تم ( الافراج !) عن بعض مؤلفاته قبل ثورة اكتوبر بالاساس , وقد شاهدت بام عيني ردود فعل القراء الروس وهم يتزاحمون ويقفون في الطابور بمخازن بيع الكتب السوفيتية من اجل الحصول على نسخة من كتب بونين , التي أعادت دور النشر السوفيتية طباعتها وتوزيعها عندئذ في تلك الفترة , وقد ازدادت عودة بونين الى القراء الروس بالتدريج و بمرور الوقت , اذ ان بونين هو كاتب عملاق متعدد المواهب , فهو شاعر وقاص وروائي وكاتب مقالة من الطراز الفريد والمتميز بكل معنى هذه الكلمات , وليس عبثا , ان الباحثين العرب , الذين كتبوا عن الموضوعة العربية في الادب الروسي قد توقفوا طويلا وتفصيلا عند بونين ( وخصوصا البا حثة المصرية الكبيرة أ.د. مكارم الغمري) .
الا ان هذه العودة لم تكتمل كما يجب الا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي العام 1991 , اذ ابتدأ الكلام العلني والصريح في روسيا الاتحادية رأسا عن بونين باعتباره اديبا كبيرا , وباعتباره اول كاتب روسي حائز على جائزة نوبل , وهكذا تأسست جمعية من محبيه للحفاظ على تراثه في روسيا , و تم نشر أعماله الابداعية كافة ( بما فيها التي كتبها في فرنسا) , وهكذا ايضا ظهرت عام 1995 ( اي بعد اربع سنوات فقط من انهيار الدولة السوفيتية , وفي الذكرى 125 على ميلاده ) عدة تماثيل له رأسا في روسيا , وبالذات في الاماكن الذي كان بونين يرتبط بها , وهي ظاهرة فريدة في التاريخ الروسي , اذ لم يسبق لاي كاتب في روسيا ان اقيمت له عدة تماثيل في آن واحد , وهذا يبين طبعا حب القراء الروس وتقديرهم العالي لهذا الاديب ورغبتهم المخلصة ( بل تعطشهم الحقيقي) لعكس هذا الاهتمام به في تلك الذكرى .
نتوقف فليلا عند تمثال ضخم له في مدينة فارونش , وهي المحافظة التي ولد فيها . . يجلس بونين في ذلك التمثال على جذع شجرة وهو بكامل اناقته ( ويرتدي حتى وردة بدل رباط العنق ) ويوجد كتاب مفتوح جنبه على ذلك الجذع, وينظر بونين بتأمل وقلق الى بعيد , وهناك كلب ضخم عند قدميه . لقد اراد النحات ان يجسّد بونين الارستقراطي وقد قرر ان يترك وطنه , ولهذا جعله في أبهى ثيابه اولا لانه واحد من الارستقراطيين الروس , ولكنه كان غارقا في القلق وهو ينظر الى الافق البعيد , لانه كان مضطرّا ان يترك وطنه نتيجة تلك الاحداث المحيطة بوطنه , اما الكلب الوفي الذي كان عند رجليه , فانه كان يرمز الى تلك الحياة المتفرّدة التي ستبقى تتذكره, رغم انه سيتركها على الارض التي سيغادرها . التمثال هذا يقع في متنزه كبير ورائع قرب جامعة فارونش , وقرب المكتبة المركزية للمدينة . لقد زرت انا شخصيا هذا التمثال عدة مرات , وأذكر اني كنت اقف مرة عنده متأملا , واقترب مني أحد سكان تلك المدينة , وقال لي انه لاحظ اهتمامي بالتمثال , وفهم باني اجنبي , وبدأ يتحدث عن الفخر والاعتزاز بهذا التمثال باعتباره ( ابن مدينته فارونش ) , وبانه ( اول كاتب روسي يحصل على نوبل ) , ولم اخبره طبعا باني اعرف كل ذلك , ولكني سألته – ( لماذا يوجد عند قدميه كلب ؟) , فقال – ( ان بونين كان يحب الصيد دائما , وان النحات صوّره وهو يتهيأ لرحلة الصيد ) , فقلت له مبتسما – ( وهل يذهب االانسان الى الصيد وهو يرتدي احلى الملابس والوردة حول عنقه ؟ ) , فانزعج من سؤالي وتركني , وقد رويت هذه الحادثة الطريفة بعدئذ لاصدقائي الروس , وضحكنا طويلا …
و في نفس ذلك العام ايضا ( 1995) تم تدشين تمثالين لبونين في مدينة صغيرة هي – يليتس , وتقع قرب فارونش (و تابعة لها). لقد ولد بونين في هذه المدينة الصغيرة وكان تلميذا في مدرستها , ولهذا تم افتتاح تمثالين له , الاول فريد من نوعه لبونين التلميذ , وهو يجلس وترك الزي المدرسي جنبه, والتمثال الثاني وهو يجلس على مصطبة ويضع ساقا على ساق ويرتدي قبعته وهو في حالة تأمّل . وفي نفس العام ايضا تم افتتاح تمثال لبونين في مدينة اريول , وهو تمثال ضخم جدا ويقف بونين بقامته على منصة عالية جدا , ويعدّ واحدا من اضخم تماثيله في روسيا .
ولم تتوقف حملة اقامة التماثيل لبونين في روسيا , اذ تم افتتاح تمثال له في العاصمة الروسية موسكو عام 2007 , وفي مدينة يفريموف عام 2010 , وفي مدينة نوفغورد عام 2011 , ولا يمكن التوقف تفصيلا عند كل هذه التماثيل , اذ ان كل واحد منها هو تحفة فنية بكل معنى الكلمة .
لقد قال لي أحد الباحثين الروس مرة , ان روسيا تريد ان تعتذر من بونين , ولهذا أقامت له كل هذه التماثيل الكثيرة و المتنوعة , فقلت له ما أجمل هذا الاعتذار وما أروعه .