تنظر من سطح الدار لأن جدها، ووالدها، وأعمامها، يرفضون وجود أي طفل داخل حديقة المنزل، ليدفنوا بضع كتيبات صفراء والوقت المثالي لهذا القداس الثمين، هو ما بعد منتصف الليل لأن عيون الطاغية تملأ كل الأمكنة والأزمنة، وبما أن العشيرة دفعت كوكبة من شبابها ومثقفيها، ثمناً للحرية والكرامة بدءاً من 1980 وما تلاها، من قمع، وعنف، وتهجير، فقد توجسوا الخوف حتى منا نحن أبناؤهم، كيلا نتحدث في الصباح عن ذلك الحدث، فلقد دفنت الحرية في الحديقة!
سنوات عجاف طويلة، لم تكن كعجاف مصر بل طال أمدها، ليدفع الشعب العراقي، رجالاً وأطفالاً في حرب وحصار مريرين، فما كابده العراق في تسعينيات القرن الماضي مأساوي، بكل ما تحمله المأساة من وصف عميق، لكن وسط هذا الصمت المخيف، هناك صوت كنا نسمعه في خلسة، يشعل فينا جذوة الأمل، وكلما وضح مصدر الصوت كنا أكثر سعادة، رغم أن صور أحباءنا لاتفارقنا، فهم مابين مغيب، ومفقود، ومعدوم، ومدفون في المجهول، إنه صوت الثورة الإسلامية في العراق.
هناك قضية تعيش في وجدان الجماهير وضميرها، وبإرادة غيبية تصبح هذه القضية طاقة محركة للأجيال، تقارع الحكم وترفض الظلم، فترى الرجل العظيم يخرج من بين القصب، ليعلن ثورته المعطاء، فهو زاحف بأسرته وأنصاره نحو الحرية الحمراء، حتى في أشد الظروف قساوة، فلم يبالِ السيد محمد باقر الحكيم البار بهذه الأوضاع، فمفاتيح بيته الكريم أقفالها: هيهات منا الذلة ونحن حسينيون، مستحضراً صور (الكبد والطشت والرمح والرأس)، فيطلقها صوب الطاغية ليقض مضجعه البائس، وينادي: لبيك يا حسين.
من العام 1980 وحتى بدايات عام 2003، لم يجرؤ أحد على حفر المكان، الذي جرى فيه قداس الكتب الشهيدة، وكنت أنظر إليه بإمعان رغم أنني فارقته سنوات، لكن بمجرد سماعنا لنبأ سقوط الصنم البعثي الكافر، حتى زحفت أقدامنا بلا شعور صوب ما بقي من حديقة جدي، ورحت أحفر بيدي أنا وأخوتي وأبناء عمومتي، حيث بتنا في عمر الشباب، عندها تفاجئنا بما ظل خالداً بين ذرات التراب الرطب، ليشع عبق كلمات معطرة قالها شهيد المحراب آنذاك.
كلمات مضيئة خالدة أمثال: (أمريكا تريد نشر إسلام مهادن، يسكت عن الظلم ويداهن الطغاة، إسلام يشتري الضمائر بالأموال، ويرضى بالفساد والقمع والعنف، إنه إسلام يؤمن بالإرهاب، أما إسلامنا فيؤمن بالحق، والحرية، والعدالة، والكرامة، والجهاد، فهذا الإسلام هو مَنْ ناضل لأجله شهيد المحراب، لذا أنا أفتخر، بأنني مَنْ أخرجت أوراق الشموخ الكبرياء من حديقتنا، لأنني عندها لن أجيب سيدي مرتين، بل سأجيبه في كل مرة: لبيك يا حكيم، يا مَنْ جعلتَ صلاة الجمعة، خاتمة شعائرك الكريمة.