18 ديسمبر، 2024 7:19 م

تلاوين ومفاعيل المساعدات للدول النامية

تلاوين ومفاعيل المساعدات للدول النامية

لا بد في البداية من التفريق بين نموذجين من المساعدات المقدمة للدول النامية؛ الأول هو المساعدات التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية ومؤسسات العمل الخيري التطوعي؛ والثاني المساعدات التي تقدمها الحكومات سواء بشكل مباشر أو عبر ستارات من المنظمات غير الحكومية والبرامج غير الرسمية لتورية مصادر التمويل لتلك المنظمات وأهدافها الحقيقية. ففي حالة المجموعة الأولى فهي جهود استثنائية وخَيِّرة ولا بد من الثناء عليها، وهي تصب في خانة التضامن البشري بين البشر بغض النظر عن أي اعتبار آخر يفرقهم، وهي في مجملها مساعدات صِغَرِيِّة (Micro) في ميادين وحقول محددة لا يصعب على الناظر المدقق كشف حقيقتها الخيرية، سواء كانت في تقديم العون الصحي للمرضى هنا وهناك، أو تعليم الأطفال والأميين، أو المساعدة في حفر بئر لشرب ماء صالح.
أما المجموعة الثانية فهي نموذج من المساعدات التي تنخرط بشكل عضوي في جعبة أدوات الهيمنة الإمبريالية المعولمة للشركات العابرة للقارات والحكومات التي تسيطر عليها في العالم المتقدم. وللطرافة فإن حصة الأسد من تلك المساعدات تتجلى في مساعدات عسكرية أو منح مالية مخصصة لشراء أسلحة وخدمات تدريبية عسكرية وشُرَطِيِّة من نفس تلك الشركات في الدول المتقدمة. وهو ما يعني أنها منح مالية من دافعي الضرائب في العالم المتقدم لمجمعاتها الصناعية العسكرية التقانية الحاكم الفعلي في دول العالم المتقدم، بالإضافة إلى تحقيق هدف جانبي لا يقل عن ذلك الأخير أهمية، ويتمثل في بناء علاقات وروابط مع الأشخاص الفاعلين في البنى القمعية الأساسية في الدول النامية ممثلة بالأجهزة الأمنية والعسكرية في تلك الدول، كأداتين أساسيتين لإدامة الاستبداد والهيمنة عبر نظم النواطير على المجتمعات النامية ومواردها. وفي ذلك تكمن أهمية كبرى تفصح عن نفسها بأن المساعدات العسكرية والأمنية للدول النامية من حكومات العالم المتقدم تكتسي بصفة من المناعة المستدامة تمنع توقفها أو تأثرها بواقع العلاقات السياسية بين الدولة النامية والدولة المانحة نظراً للدور الوظيفي الاستثنائي الذي تقوم به في استدامة واقع الهيمنة الكونية للأقوياء الأثرياء على المفقرين المستضعفين.
والتمظهر الفعلي للدور الوظيفي لتلك المساعدات يكمن في الإمساك بتلابيب الحل والعقد الأمني والعسكري في الدولة النامية، وهو ما سوف يعلم الناطور المكلف بشؤون رأس الدولة الأمنية عبر قرون استشعاره المخابراتية من استكناه أنه في حال انزياحه قيد أنملة عن دوره الوظيفي المناط به، فإن هناك الكثير من الانتهازيين المدربين في الأجهزة الأمنية المرتبطين بمموليهم ومدربيهم ومعلميهم في مراكز إدارة الهيمنة الكونية في مجتمعات الأقوياء جاهزون للانقضاض عليه، وإزاحته والحلول مكانه في منصب الناطور الأول. وإن استعصى ذلك على الأجهزة الأمنية، فإن الجيش وكتلته الحربية المعدة والمدربة بشكل حصري لشن حروب على شعوبها وضمان استكانتها وخضوعها، جاهزون للتدخل والانقلاب العسكري عليه وإقامة نظم عسكرية شمولية تضمن مصالح أولياء الأمور في العالم المتقدم بشكل غير قابل للتغاير. والأمثلة على ذلك تاريخياً عصية على الإجمال والحصر من جنوب شرق القارة الآسيوية وصولاً إلى أمريكا الجنوبية، مروراً بالكثير من المآسي التاريخية في القارة الأفريقية المظلومة وفي عالمنا العربي التي ليس من عاقل لبيب غير قادر على استذكار طبيعتها ومفاعيلها التراجيدية التي لا زالت جل المجتمعات العربية تعيش في لجها.
وذلك النموذج من المساعدات التي تصب في المآل الأخير في خانة المساعدات الأمنية والعسكرية عتاداً وتدريباً، يفضي إلى حالة فريدة من تعضي الأجهزة الأمنية والجسم العسكري في النظم الاستبدادية التابعة لإرادة مموليها الفعليين لضمان عدم انقطاع صبيب تلك المساعدات. والحالة الفريدة تلك تفصح عن نفسها من خلال تشكيل علاقات عضوية وارتباطات مصلحية انتهازية مع أشخاص فاعلين في جسم تلك الأجهزة الأمنية والعسكرية خلال عملية حصولهم على التدريب المعلن ظاهرياً، وما يرتبط به من أنشطة قد تقتضي في الكثير من الحالات سفر أولئك الأشخاص إلى خارج بلدهم، بما يوفر إمكانيات أكثر لاكتشاف الكوامن الانتهازية لدى كل منهم بشكل أكثر وضوحاً، بالتوازي مع تلمس نقاط ضعف كل منهم، والتي قد تكون كثيرة أو قليلة، و التي تصب كلها في المآل الأخير لتحويلهم عملاء مباشرين مكلفين بمهمة تكميلية لمهمتهم الأولى المتمثلة بحفظ شؤون الاستبداد والطغيان ومصالح أصحاب الحل والعقد من أولياء أمر المستبدين على المستوى الكوني المشخصين بالشركات العابرة للقارات والحكومات التي تسيرها في الغرب، والتي تتمثل في رصدهم الدقيق لكل حركات وسكنات النظام الذين يسهرون على استدامته، وتنبيه أولياء الأمر في العواصم الغنية بشكل مباشر إن تلمسوا أي انزياح محتمل من النواطير المحليين القائمين بشؤون الاستبداد عما رسم لهم، وبحيث يتمكن أولياء الأمر من التدخل العاجل عبر «فرك أذن» المستبد، أو الانقلاب عليه عبر العملاء المزدوجين الآخرين الذين ينتظرون أوامر سادتهم الفعليين في العواصم الغنية للانقضاض على سادتهم الظاهريين من النواطير المحليين في المجتمعات النامية المفقرة المنهوبة، في نموذج فريد يرقى لأن يكون «عولمة للاستبداد والهيمنة».
ومن ناحية أخرى فإن تلك المساعدات في الحيز الإنتاجي بشقيه الصناعي والزراعي تقوم بدور خطير، وثقه بدراسات وكتب عديدة المفكر الاقتصادي الرائد سمير أمين، والعالم الاقتصادي جوزيف ستيغلتيس، والمتمثل في تدمير الاقتصادات المحلية في الدول النامية، وخاصة الزراعي منها، عبر إغراق السوق المحلية في الدولة النامية بنتاج مهول من الدول الغربية بأسعار شبه مجانية، تؤدي في المآل الأخير إلى انعدام أي ربحية من الإنتاج المحلي لتلك المنتجات، وهو ما يقود فعلياً إلى الإمساك بتلابيب قوت المجتمعات النامية بعد حين، و التي سوف يصبح قوتها وديمومة حياتها وحياة أبنائها مرتبطاً بتعطف المانحين من دول السادة الأغنياء، والتي لا يمكن أن تكون دون اشتراطات سياسية تصب في مصلحة المانحين المتمثلة في الحفاظ على موقع الدول النامية كمصدر رخيص للمواد الخام، والقوة العاملة شبه المجانية، وكسوق مفتوح على أعنته لكل نتاج المجتمعات الغنية لتصريفه فيها دون أي ضوابط اقتصادية أو ضريبية لحماية صناعة وطنية قد تحاول تصنيع أو إنتاج ذلك المنتج محلياً سواء كان صناعياً أو زراعياً.
والأمثلة على تمظهرات الواقع الأليم السالف الذكر كثيرة في الحالة العربية المأساوية التي تحولت فيها الكثير من المجتمعات العربية من مُصَدِّر للنتاج الزراعي إلى المجتمعات الأخرى إلى مستورد شره ومنتظر بفارغ الصبر لتحنن «السادة المانحين» عليه، لا يجد ضيراً في الانحناء إلى درجة «الانبطاح الانسحاقي» لكل شروطهم «المجحفة دائماً وأبداً»، إذ دون «رضوانهم» جوع وفناء مجتمعات المظلومين المستضعفين التي يتغولون عليها نهباً وطغياناً وفساداً و إفساداً وعسفاً وقهراً.