أعتقدُ أن أغلب مُثقفي العالم سيشاركوني الرأي في أنّ الإنسان لجأ الى أبتكار وسيلة الدِين قبل ما يُقارب الخمسة آلاف سنة نظراً لأنّ الدين كان الوسيلة الوحيدة التي كان مِن المُمكن إبتكارها في ذلك الزَمن لإدارة علاقات ومشاكل أفراد المجتمعات البشرية البدائية بعد ظهور عُنصر (المال) فيها وفي وقت كانت تخلو فيه تلك المجتعات البدائية مِن أيّ شكل مِن أشكال الإدارة والسياسة والقانون، حيث ما كان أمام النشطاء البدائيين مِن البشر حينها قدرة على إبتكار وسيلة للتحكم بمجتمعهم وإدارته سوى إستغلال واقع الرغبة الفِطرية للعقل البشري لوجود (الله) كقوة مُفترضة خفيّة عظيمة خالقة للإنسان، وهنا قام النشطاء البدائيون بِفرض سيطرتهم كـ (سياسيين) على مجتمعاتهم مُدّعين أنهم يطبقون أوامر (الله) بمجموعة قوانين وأحكام دينية كان العقل البشري لاولئك المفكرين حينها قادراً للوصول اليها، وقد إستفاد اولئك النُشطاء السياسيون البدائيون مِن إبتكارهم لوسيلة (الدين) مِن الإمتيازات التي مَنحوها لأنفسهم ضِمن قوانينهم المُشرّعة بتوكيل مِن (الله) حسْب زعمهم، الا أنه ورغم كل ذلك فأنّ اولئك المُفكرين أو النشطاء البدائيين يُحْسب لهم أنهم كانوا أصحاب الفضْل في نشوء أول الأنظمة السياسية والإدارية والقانونية والدستورية في التاريخ البشري والتي نشأتْ جميعها بصفة الـ (دين) وأحكامه، وهكذا توالت الأديان بظهورها في المجتمعات البشرية القديمة تباعاً وحسب التنافس الذي كان يحصل بين فترة وأخرى بين المفكرين البدائيين الذين كانوا يطمعون في إمتيازات السلطة في إدارة مجتمعاتهم، حيث كانوا يَسنّون تشريعات وقوانين جديدة يَنسبونها الى (الله) في حين كان دافعهم الأساسي هو الإستفادة مِن إمتيازات تَرَأسُهم لمجتمعاتهم بشكلِ وغطاءِ الـ (دين)، وتطوّرَ الأمْر بعْد قرون عديدة مِن مستوى أعلان أديانٍ جديدة الى مرحلة التنافس والصراعات على إمتيازاتِ ومغرياتِ السلطة بين أفراد العوائل الثريّة التابعة للدين الواحد وبعدها تطوّر الأمر الى مرحلة ظهور الجماعات أو الأحزاب التي شكلتها العوائل المتصارعة على السلطة في كل مجتمع، الى أنْ تطوّر الأمر مُؤخرا الى مرحلة النُظم الإنتخابية الديموقراطية في زمننا الحالي في حين ما تزال مجتمعات شرقية عديدة ولاسيما في مناطق الشرق الأوسط تعيش مرحلة سيطرة الدينيين أو العوائل المالكة رغم إدّعائهم تطبيق الحرية والديموقراطية.
ما يهمنا تكرار الإشارة اليه مراراً في مقالنا التخصصي هذا، هو أن جميع الأديان أبتدأت ولادتها ونشاطها في أزمنة قديمة كانت تفتقر فيه المجتمعات البشرية لأي شكل مِن أشكال التنظيم والإدارة والقانون، وأن جميع الأديان والمَذاهب والتفرعات الدينية في العالم أنما وُجِدَت لإدارة المجتمعات البدائية المتخلفة علمياً وحضارياً وانّ أهم سببٍ دَفَعَ موؤسسي تلك الأديان والمذاهب الدينية الى إعلان أديانهم أو مذاهبهم الدينية هو الرغبة في الإستفادة مِن مزايا وأمتيازات السلطة الدينية، كما أن العدد الذي لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة مِن موؤسسي الأديان مِمن لم يَعملوا على الحصول على سلطة أو مال أو متعة حسْب ما تدّعى الكتُب الدينية فأن الكهنة المُرتبطين حينها بشكل مباشر باولئك الموؤسسين هم مَنْ إستفادوا مِن مزايا السلطة الدينية أو القوة الدينية وكأنّ الأمر أصبح سيّان، وهذا ما يجعلنا ندرك أنّ عوامل السلطة والمال والمتعة كانت وما تزال غالباً هي الحجر الأساس والمهم في أيّ وجودٍ لمهنة (رجل دين) في التاريخ البشري رغم أنّ جميع الأديان والمذاهب والتفرعات الدينية تَصبغ نفسها بأشكال مختلفة من الطقوس لتُميّز نفسها عن غيرها ولتبرر وجودها كـ (دين) أو مَذهب ديني مُستقل أو جديد، في حين مازال أغلب أفراد مجتمعات الشرق الأوسط ولغاية يومنا هذا يعتقدون وبشكل لا يقبل الشك مطلقاً بأنّ إنتماءهم الديني الموروث لا إرادياً هو إنتماء للديانة أو المذهب الديني الصحيح والوحيد، ولو كان نفس هؤلاء الأفراد وُلِدوا مِن أبوين لهم ديانة أو مذهب ديني آخر لكان نفس هؤلاء الأفراد يظنون وبلا شك أيضاً بأنهم ورِثوا الدين أو المذهب الديني الوحيد الصحيح وربما كانوا سيُبدون إستغرابهم مِن عدم قيام الآخرين مِن ذوي الديانات والمذاهب الأخرى بتغيير ديانتهم أو مذاهبهم الى الديانة أو المذهب الوحيد الصحيح الذي ولِدوا هُم عليه.
أغلب مثقفي العالم باتوا يدركون ومنذ أكثر مِن عشرات العقود أنّ وقت قيام الأديان بفرض أحكامها على أفراد المجتمع يجب أنْ ينتهي، حيث تمكن العقل البشري ومنذ قرون عديدة من إبتكار أنظمة وقوانين حديثة وقابلة دوماً للتطوير بهدف أدارة العلاقات الإقتصادية والحقوقية بين البشر دون التمييز بينهم بسبب الإنتماء الفكري والديني والمذهبي.
أغلب المثقفين في العالم يدركون أنّ الإنسان حر في إختياره العمَل في مهنة (الدين) بأعتبار إنّ هذه المِهنة هي مهنة روحانية مَشروعة قد تُساعد الكثير مِمّن يلجأون اليها في بلوغ حالة مِن الراحة أو الإستقرار النفسي، الا أنّ كل مثقفي العالم يَرون في نفس الوقت أنّ مهنة (الدين) يجب أنْ لا تعمل على فرْض الأحكام والشرائع الدينية على الناس لاسيما أنّ نسبة كبيرة جداً مِن بشر الأرض باتوا يدركون حالياً أنّ كل الأحكام والشرائع الدينية أنما هي مِن إبتكار العقل البشري الشرقي قبل آلاف السنين رغم أنّ عشرات وربما مئات الأديان والمذاهب الدينية في العالم ما تزال تدّعى أنّ شريعتها وأحكامها إنما هي شريعة وأحكام الله، مثلما تدّعي كلٌ مِنْ هذه الأديان والمذاهب أنها الوحيدة الصحيحة بين مثيلاتها، مُنوهين الى أنّ كل ديانات العالم مُنقسمة على نفسها الى عدّة مذاهب وعدة فروع وأنّ كل تلك المذاهب والفروع تدّعي أنها هي الوحيدة الصحيحة، كما نشير الى أنّ ظهور أديان جديدة كان توقَف في مجتمعات الشرق حالَ تمكن العقل البشري مِنْ إدارة نفسه بقوانين وشرائع أكثر تطوراً مِن الأحكام والشرائع الدينية، وقد ساعدتْ أوضاع زيادة الوعي الفكري والعلمي بين البشر في الحد مِن توالي ظهور أديان جديدة ناهيك عن أنّ بعض الأديان حتّمتْ على تابعيها قتْل كل مَنْ يُريد تأسيس دين جديد مُعتبرة نفسها آخر الأديان التي أرسلها الله الى البشر، لكنّ إستمرار الصراعات بين رجال الدين داخل كل ديانة بسبب التنافس على إقتسام مغانم السلطة الدينية أدّى منطقياً الى أستمرار ظهور الأنشقاقات والمذاهب الدينية المتعددة داخل كل ديانة ولغاية أيامنا الحاضرة والى حدٍ قد تكون فيه تلك المذاهب وكأنها ديانات جديدة فعلاً، وكل هذا حصل ويحصل في مجتمعات العالم في حينٍ يرى أغلب مُثقفي العالم ما يلي:
(في الوقت الذي أستطاعت فيه معظم المجتمعات الغربية المتحضرة وقبل عقود عديدة مِن عبور مرحلة الأديان التي تتدخل في شوؤن إدارة المجتمع وحقوق الإنسان فيها ولتصبح قضية (الدين) هي مجرد إعتقاد شخصي بَحْتْ، فأنّ نسبة كبيرة مِن أفراد مجتمعات الشرق الأوسط ما تزال تفْتقد أبسط حقوقها الإنسانية في ظِل إنغلاق تلك المجتمعات على نفسها وعلى الماضي المُتمثل بالثقافة الدينية والمذهبية الموروثة إجتماعياً مِن جيل الى آخر حيث يَعمل رجال الدين في هذه المجتمعات على التمسك بقوة بالموروث الديني وأحكامه حرصاً منهم على بقاء تمتعهم بالمصالح والإمتيازات التي تناقلت لهم مِن الموؤسسين الدينيين والقادة المذهبيين القدامى الذين إدّعوا قبل آلاف السنين أنهم يُمَثلون الله وأحكامه المُرسلة اليهُم سِرّاً بينما كان ما حصل فعلاً هو حصول اولئك الموؤسسين الدينيين والقادة المذهبيين على إمتيازات السلطة والجاه والمال والمتعة على حساب تقييد وإنتقاص حرية وحقوق أفراد مجتمعاتهم البدائية).
على صعيد آخر، تمكن العقل البشري الغربي خلال الثلاثة قرون الماضية مِن الزمن مِن تحقيق قفزات علمية وحضارية غير مسبوقة بمدى نوعيتها وأهميتها وسرعة حصولها، وما تزال هذه القفزات العلمية والحضارية تُحقق مساراً تصاعدياً في كل يوم يمر مِن حياة البشر الغربي حالياً، حيث التطوّر الهائل في مجالات علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والهندسة ووسائل الإتصالات والفضاء والطب والإعلام والفنون وعموم التكنولوجيا وكذا مجالات علوم القانون والإقتصاد والإجتماع وجميع المجالات الأخرى المرتبطة بحياة الإنسان، كما نالت علوم (السياسة) نصيبها المماثل مِن قفزات التطوّر المتميزة بنوعيتها وأهميتها وسرعة حصولها أيضاً.
يتبع ..
أعلاه هو الجزء الاول من مقال ( تكنولوجيا سِريّة جداً ) من كتابي الموسوم بـ ( أحترمُ جداً هذا الدِين ) والمنشور عام 2021 بأكثر من تسع لغات رئيسية متداولة في العالم .