في الفيلم المصري الشهير (عسل اسود) يظهر الفنان الراحل يوسف داود وهو منهمك في قراءة إحدى الصحف، ويبدو منعزلاً عن محيطه الذي يوجد فيه ومستمعاً بما يطالع، لكنك تتفاجأ حين تعلم انه يقرأ نفس العدد من ذات الصحيفة كل يوم!
ما زلت منجذباً إلى تلك العادة منذ وقت بعيد، ان اعيد قراءة الصحف والمجلات ومشاهدة ذات الأفلام والمسلسلات بل وذات المشاهد بالتحديد بشكل لا أشعر فيه من الملل رغم غرابته، حتى لأقرأ المقطع او المقال او قصة واشاهد ذات المشهد مائة مرة او يزيد بكثير!
والحقيقة أنني وجدت نفسي متسائلاً: هل ذلك تعبير عن جمود معاصر، وسكون راهن، أم ماذا؟
لما نظرت ملياً، ووضعت جانباً فقدان طعم الأشياء في الوقت الحاضر لرداءة المنتج وشيوعه المتجاوز للحدود المنطقية، وجدت ان تلك الممارسة التي لم يكن مخطط لها بالضرورة تحمل معنى التأمل الطويل واعادة قراءة الأشياء والأحداث واكتشاف المخفي منها.
ان الكثير من الأحداث والمواقف لا تبدو بطبيعة الحال واضحة من اول وهلة، ويبقى جزءاً منها غائماً وغامضاً ويحتاج إلى تفسير، ونحن نتعامل معها بحكم محدودية امكانياتنا البشرية دون شك وربما نبني على فهمنا اللحظي تصورات وقرارات وبعضها يظهر عدم صوابيتها لاحقاً، ولكن وفي كل مرة تصلنا الرسالة الواضحة أننا لم نر جميع أنحاء المشهد، وان فهمنا ذلك ورغم الثقة التي تملؤنا ونحن نملكه وقتذاك لم يمثل ربما إلا نسبة ضئيلة مما جرى.
وفضلاً عن محدودية القدرات المؤدية إلى قصور الفهم، فإن النضج الفطري الذي اودعه الله فينا كلما تقدمنا في السنوات إلى الأمام يمنحنا رصانة اكبر، وقدرة أعمق على استيعاب ما يحيط بنا وتطوير أدوات التعامل معها.
اعادة اكتشاف الأشياء مهمة ليست هينة وضرورية لأننا تتوافق مع مسألة استرجاع الذاكرة وتوظيفها لتحسين الواقع، والمحظوظ من اقتنص الدرس وأدرك المتغيرات، وعمل بما علم!
لم يكن يوسف داود ربما يجد فيما يقرأ ما نقول، بل ربما كان ذلك المشهد الجميل معبراً عن توقف الزمان عنده، إذ لم يعد الحاضر قادراً على تحقيق القناعة المطلوبة، فاختار الهرب إلى الوراء، وهي رسالته، وربما اجد في نفسي كذلك بعضاً من تلك السلوة في القيام بهذا السلوك المتكرر كل يوم تقريباً، لكنني في نهاية المطاف أخرج وقد رأيت وقرأت بعين جديدة ورؤية متطورة وفهماً أعمق، وفي النهاية اجدني اكثر حزماً وحسماً تجاه تقرير موقفي من الموضوعات التي اقرأها والقرارات التي اخرج بها بخصوصها.