تفكيك الأسطورة الرحبانية: زياد رحباني بين السرد الجمالي والخطاب ما بعد البنيوي

تفكيك الأسطورة الرحبانية: زياد رحباني بين السرد الجمالي والخطاب ما بعد البنيوي

المقدمة
شكّلت التجربة الرحبانية، منذ منتصف القرن العشرين، ركنًا أساسيًا في صناعة الهوية الثقافية اللبنانية. فقد نجح الأخوان عاصي ومنصور رحباني، عبر فيروز ومسرحياتهما الغنائية، في تقديم صورة مثالية عن لبنان: بلد الجمال، القرى الحالمة، جبال الأرز، و”سويسرا الشرق”. غير أنّ هذا المشروع الذي بدا متماسكًا في لحظاته الأولى، سرعان ما أصبح هدفًا للتشكيك والتفكيك في ظل التحولات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالبلاد، خصوصًا مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.
هنا يبرز اسم زياد رحباني، ابن عاصي وفيروز، وريث المدرسة الرحبانية والمتمرّد عليها في آن. لقد جاء مشروعه الفني ليقلب الصورة المثالية رأسًا على عقب: بدل “لبنان الجميل”، قدّم “بيروت القبيحة”؛ بدل البطولة الرومانسية، رسم كوميديا سوداء يُستبدل فيها البطل بالكومبارس، والحلم بالمهزلة. يمكن قراءة هذا التحوّل ليس فقط بوصفه تمرّدًا فنّيًا، بل أيضًا باعتباره ممارسة معرفية–نقدية تقترب في جوهرها من روح التفكيك كما بلورها جاك دريدا، ومن مفهوم “موت المؤلف” كما طرحه رولان بارت.
القسم الأول: الرحابنة وصناعة الأسطورة
ارتكز المشروع الرحباني الكلاسيكي على بناء “أسطورة لبنان الجميل”. في أغنيات فيروز ومسرحيات عاصي ومنصور، يظهر لبنان كفضاء أسطوري متعالٍ: قرويون يزرعون الأرض ببراءة، فلاحون يعيشون في انسجام، أبطال يدافعون عن الوطن، ونساء يجسّدن الطهر والوفاء. هذه الصورة لم تكن مجرد زخرف فنّي، بل كانت مشروعًا سياسيًا–ثقافيًا لإعادة صياغة الهوية اللبنانية بعد الاستقلال.
اللغة هنا لغة شعرية عالية، مشبعة بالرموز الزراعية والجبليّة: “سهل الأخضر”، “جبال الأرز”، “الضيعة”، وكلها أدوات أيديولوجية لإعادة تخييل الوطن على نحو يتجاهل تناقضاته الطبقية والطائفية. بهذا المعنى، مثّل الرحابنة قوة رمزية للتماهي الوطني، لكنهم في الوقت ذاته كرّسوا خطابًا تجميليًا أُريد له أن يكون بديلاً عن الواقع المعقّد.
القسم الثاني: زياد الرحباني والقطيعة الساخرة
ظهر زياد في سياق الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990)، حيث انهارت الأسطورة الرحبانية تحت وطأة الدماء والانقسامات. في مسرحيات مثل بالنسبة لبكرا شو؟ وفيلم أميركي طويل، اختفت القرية الحالمة لتحلّ محلها بيروت الممزقة: بارات رخيصة، شوارع منهارة، وطبقة وسطى مأزومة.
اللغة هنا تنقلب: من الفصحى المهيبة إلى العامية اليومية، من النغم الرومانسي إلى الإيقاع الصادم. الكوميديا السوداء تصبح وسيلة تعبير عن واقع مأزوم، حيث “الوطني” مجرد كومبارس في مسرح سياسي تحكمه قوى أكبر. هكذا قدّم زياد صورة المواطن المقهور، العاطل، اليائس، الذي يرى في السخرية أداة النجاة الوحيدة.
إنّ هذا الانقلاب لم يكن مجرّد خيار أسلوبي، بل قطيعة مع المشروع الرمزي للجيل السابق. أعلن زياد بوضوح أنّ “لبنان الجميل” ليس إلا أسطورة هشّة، وأن الحقيقة تكمن في “لبنان “، لبنان الحرب والانقسام.
القسم الثالث: التفكيك ما بعد البنيوي
يمكن قراءة مشروع زياد الرحباني عبر عدسة ما بعد البنيوية. وفق جاك دريدا، كل خطاب يسعى لتأسيس “مركز” مستقر للمعنى، لكنه سرعان ما يُفضَح بالتناقضات الداخلية التي تؤدي إلى انهياره. هذا ما فعله زياد مع الأسطورة الرحبانية: لقد كشف أنّ خطاب “لبنان الجميل” ليس مركزًا صلبًا بل بناء لغوي هشّ، سرعان ما ينكشف زيفه أمام الواقع.
أما رولان بارت، فقد تحدّث عن “موت المؤلف” بوصفه تحرّر النص من سلطة الأب. زياد مارس هذا الموت حرفيًا: لم يكتفِ بالتمرد على الأب البيولوجي (عاصي)، بل أيضًا على “الأب الرمزي” الذي يمثّل السلطة الفنية والاجتماعية. نصوصه مفتوحة على احتمالات القراءات، ساخرة من قداسة النموذج الرحباني، ومتفلتة من التماهي مع أي خطاب سلطوي.
بهذا المعنى، يصبح زياد ممارسًا للتفكيك بالمعنى الدريدي: هدم المركز (لبنان الجميل)، فضح الانفصام بين الرمز والواقع، والإبقاء على “الاختلاف” كحقيقة وحيدة.
القسم الرابع: المشهد الثقافي اللبناني والعربي
لم يكن زياد حالة معزولة؛ بل مثّل تحوّلًا ثقافيًا أوسع في لبنان والعالم العربي. ففي حين استمرّ الخطاب الرسمي–الإعلامي في ترديد أساطير الوطنية، جاءت نصوص زياد لتفضح انهيارها. لهذا، لاقى مشروعه استقبالًا ملتبسًا: فالجمهور الشعبي وجد فيه صدى لمعاناته اليومية، بينما رأى فيه المحافظون “خيانة للتراث الرحباني”.
هذه الجدلية تعكس الانقسام الثقافي الأوسع في المنطقة: بين خطاب الهوية الرومانسية (كما عند نزار قباني قبل 1967 أو محمود درويش في بداياته) وخطاب الهزيمة والتفكيك (كما عند أدونيس بعد الهزائم العربية، أو نزار قباني بعد النكسة). زياد، بهذا المعنى، ليس ابن لبنان وحده، بل ابن جيل عربي كامل وجد نفسه محاصرًا بين أساطير الوطنية وواقع الانكسار.
القسم الخامس: الوظيفة المعرفية–السياسية
السؤال الجوهري: هل مشروع زياد مجرد تمرّد فنّي؟ أم أنه ممارسة سياسية–معرفية؟
الجواب الأقرب إلى الدقة: هو الاثنين معًا. فالسخرية عند زياد ليست مجرد تقنية كوميدية، بل أداة مقاومة ضد السلطة الثقافية والسياسية. حين يصوّر “المناضل” ككومبارس، فهو لا يهزأ بالشخص نفسه، بل بالبنية السياسية التي حوّلت النضال إلى عرض مسرحي. وحين يقدّم بيروت كمدينة قبيحة، فهو لا يشمت، بل يكشف الوجه المستور لواقع فاسد.
إنّ وظيفة التفكيك هنا مزدوجة: هدم الأسطورة من جهة، وفتح أفق جديد للتفكير من جهة أخرى. فزياد لم يقدّم بديلاً مثاليًا، لكنه مارس فعل الكشف، وترك النص مفتوحًا على احتمالات القراءة والتأويل، في انسجام مع ما بعد البنيوية.

الخاتمة
يمكن القول إن زياد رحباني حوّل التجربة الرحبانية من أسطورة تأسيسية إلى نقد تفكيكي. لقد فكّك صورة “لبنان الجميل”، وعرّى تناقضاتها الداخلية، وقدّم بدلاً منها سردية السخرية السوداء، حيث المواطن كومبارس، والمدينة خراب، والوطن مسرح للانفصام.
هذه القطيعة لم تكن مجرّد مزاج فردي، بل ممارسة معرفية تُعيدنا إلى مفاهيم دريدا وبارت: موت المؤلف، هدم المركز، فضح الأسطورة. بهذا المعنى، يشكّل مشروع زياد الرحباني واحدًا من أهم المنعطفات في الثقافة العربية الحديثة، لأنه تجرّأ على تفكيك رمز تأسيسي في لحظة تاريخية مأزومة.
يبقى السؤال مفتوحًا: هل يكفي التفكيك؟ وهل يمكن للخطاب الفني بعد زياد أن يبني أسطورة جديدة، أم أن مصير الفن أن يظلّ في موقع “النقد” لا “التأسيس”؟ لعلّ الإجابة كامنة في مشروع زياد نفسه: النصّ يبقى مفتوحًا، المعنى مؤجَّلًا، والأسطورة ليست سوى وهم مؤقت بانتظار من يفكّكها من جد