23 ديسمبر، 2024 8:13 ص

تفسير نصوص الدستور تفسيراً يتطابق مع المنطق والغاية التي يتغياها المشرع الدستوري من وراء تقريره للنصوص الدستورية….

تفسير نصوص الدستور تفسيراً يتطابق مع المنطق والغاية التي يتغياها المشرع الدستوري من وراء تقريره للنصوص الدستورية….

أن النصوص الدستورية قد ينتابها شيء من الغموض,ففي هذه الحالة لابد من اللجوء إلى التفسير لإزالة ذلك الغموض هذا من جانب,ومن جانب آخر فقد تأتي هذه النصوص(النصوص الدستورية) واضحة المعنى وألفاظها ظاهرة الدلالة,إلا ان تطبيقها حرفياً قد يؤدي إلى نتائج تتعارض مع المنطق والهدف الذي تغياه المشرع الدستوري من وراء تقريره لتلك النصوص,ففي هذه الحالة لابد والنظر إلى الغاية الحقيقية التي قصدها المشرع الدستوري من خلال تقريره للنص الدستوري .
وأن القاعدة الأساسية في التفسير الدستوري تتمثل بضرورة تفسير النصوص الدستورية بعيداً عن حرفيتها,بمعنى آخر يتوجب النظر إلى التفسير كمصطلح قانوني بحيث يجب على المفسر أن يقوم بتفسير النص الدستوري تفسيراً بعيداً عن الحرفية وان لا يكون مقيد بها لأنه في مثل هذه الحالة فأن المفسر يصبح وكأنه مترجماً للنص الدستوري وليس مفسراً له,فالتفسير الحقيقي الذي يؤكد عليه غالبيه الفقه الدستوري هو الأفصاح عن نية المشرع الدستوري الحقيقية من تقرير النص الدستوري دون التقيد بحرفيته.
ومن ثم الواجب أن تفسر نصوص الدستور باعتبارها وحده واحدة وتكمل بعضها البعض بحيث لا يفسر اي منها بمعزل عن النصوص الأخرى,إنما يجب ان يتم تفسيرها تفسيراً متكاملاً متسانداً معها ويفهم مدلولها فهماً يقيم بينها التوازن وينأى بها عن التعارض.
أي يجب أن نفهم العبارات الواردة في النصوص الدستورية في مجموعها,لا أن نفهم بعضها ونترك البعض الآخر,وبمفهوم المخالفة فأنه لا يجوز أن يتم تفسير نص دستوري بمعزل عن النصوص الدستورية الآخرى,إنما يجب أن يتم تفسير النصوص الدستورية تفسيراً متكاملاً باعتبارها مجموعة متكاملة تكمل بعضها البعض الآخر وذلك لغرض المحافظة على الوحدة العضوية للدستور,فضلاً عن التوفيق بين نصوصه.
وفي هذا السياق وعند الحديث عن المحكمة الاتحادية العليا واستقلالها مالياً وإدارياً فأن دستور جمهورية العراق لسنة 2005 قد بيّن في المادة (89) منه مكونات السلطة القضائية الاتحادية والتي نصت على (تتكون السلطة القضائية الاتحادية من مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية العليا، ومحكمة التمييز الاتحادية، وجهاز الادعاء العام، وهيئة الإشراف القضائي، والمحاكم الاتحادية الأخرى التي تنظم وفقاً للقانون). إذ بيّن النص المذكور مكونات السلطة القضائية الاتحادية بدءاً بمجلس القضاء الأعلى وانتهاءً بهيئة الاشراف القضائي وباقي المحاكم الاتحادية الأخرى التي تنظم وفقاَ للقانون.
ومن بعد ذلك جاءت المادتان (90),(91) من الدستور المذكور بالحديث عن مجلس القضاء الأعلى,إذ بيّنت المادة(91) من الدستور صلاحيات مجلس القضاء الأعلى جاء فيها(يمارس مجلس القضاء الأعلى الصلاحيات الآتية:إدارة شؤون القضاء والإشراف على القضاء الاتحادي.وترشيح رئيس وأعضاء محكمة التمييز الاتحادية، ورئيس الادعاء العام، ورئيس هيئة الإشراف القضائي، وعرضها على مجلس النواب للموافقة على تعيينهم.و اقتراح مشروع الموازنة السنوية للسلطة القضائية الاتحادية، وعرضها على مجلس النواب للموافقة عليها).
واستناداً للنص المذكور أعلاه لم يمنح الدستور مجلس القضاء الأعلى صلاحية ترشيح أعضاء المحكمة الاتحادية العليا,وبالتالي فأن أي نص قانوني يذهب خلاف ما ورد في الدستور يعد باطلاً وذلك استناداً لسمو الدستور(المادة 13 منه) وهذا ما قضت به المحكمة الاتحادية العليا هذا من جانب,ومن جانب آخر فقد جاءت المادة (92) من الدستور مبيّنة أن المحكمة الاتحادية العليا هيئة قضائية مستقلة مالياً وإدارياً(92/أولاً) وهذه الفقرة تشير إلى استقلال المحكمة الاتحادية مالياً,فقد جاءت هذه الفقرة لاحقة للمادة (91/ثالثاً) التي أعطت لمجلس القضاء الاعلى صلاحية اقتراح مشروع الموازنة السنوية للسلطة القضائية الاتحادية ولكن ليس بضمنها موازنة المحكمة الاتحادية كونها هيئة مستقلة مالياً(92/أولاً) عملاً بحكم القواعد التشريعية التي تقضي بأن النص اللاحق يقيد السابق والخاص يقيد العام .
ومما تجدر الإشارة إليه أن اختصاص المحكمة الاتحادية العليا يجعلها جهة قضائية متميزة عن باقي الجهات المذكورة أعلاه وبضمنها مجلس القضاء الأعلى ,فالمحكمة الاتحادية العليا هي المحكمة الدستورية المختصة في النظر بدستورية التشريعات النافذة المخالفة لأحكام الدستور النافذ (المادة 93/أولاً) وبضمنها التشريعات التي تنظم عمل الجهات المذكورة أعلاه,إذ نظرت المحكمة الاتحادية العليا حديثاً عام 2017 بدستورية قانون مجلس القضاء الأعلى رقم (45) لسنة 2017 وقررت بعدم دستورية بعض فقرات نصوصه وبمضمنها صلاحية مجلس القضاء الأعلى بترشيح اعضاء المحكمة الاتحادية العليا من القضاة,كذلك فيما يتعلق بصلاحية مجلس القضاء بأعتماد موازنة للمحكمة الاتحادية.
وبالإضافة إلى ما ذكر فأن الدستور بالمادة(94) منه منح لقرارات المحكمة الاتحادية العليا صفة الإلزام للسلطات كافة,وهذا يعني أن ما يميز المحكمة الاتحادية العليا عن باقي المحاكم القضائية العراقية بأن قراراتها باتة وملزمة للسلطات والأشخاص العراقية كافة,وهذا الأمتياز قد منحه الدستور لها وذلك لخصوصيتها ولأهميتها كونها تعد الجهة التي تراقب دستورية التشريعات المخالفة للدستور وذلك بقصد المحافظة على المشروعية الدستورية من جهة وحماية للحقوق والحريات من جهة أخرى.وأن عدم الالتزام بقرارات المحكمة الاتحادية العليا يعد خرقاً لها ذلك أن الدستور هو منحها صفة الألزام للكافة.وبرأينا لا وجود لإي مقارنة بين المحكمة الاتحادية العليا وأي جهة قضائية أخرى,فالمحكمة الاتحادية هي الهيئة القضائية التي تراقب مدى دستورية التشريعات المخالفة للدستور من عدمها,وتباشر مهامها ابتغاء المحافظة على المشروعية الدستورية,وحمايةٌ للحقوق والحريات الواردة في الدستور وهذا ما يعبر عن إرادة المشرع الدستوري الذي أراد بأن تكون هذه المحكمة هيئة مستقلة مالياً وإدارياً عن سلطات الدولة كافة وعلى اختلاف مستوياتها.
واستناداً لما ذكر عند الحديث عن المحكمة الاتحادية العليا واستقلالها وبيان أهميتها فأنه يتوجب النظر إلى كافة النصوص الدستورية التي وردت في دستور العراق لسنة 2005 المتعلقة بمكونات السلطة القضائية بصورة عامة والمحكمة الاتحادية العليا بصورة خاصة ومحاولة تفسيرها تفسيراً يتطابق وإرادة المشرع الدستوري العراقي مع الأخذ بحكم القواعد التشريعية المتمثلة بقاعدة النص اللاحق يقيد النص السابق,والنص الخاص يقيد النص العام.
وبصدد الإشارة إلى تجارب الدول المقارنة,عربياً فقد نصت المادة (1) من قانون المحكمة الاتحادية العليا الإماراتية رقم (10) لسنة 1973 إلى (…وتكون هذه المحكمة الهيئة القضائية العليا في الاتحاد.) وذلك لأهميتها كونها الهيئة المختصة بالمحافظة على المشروعية الدستورية وذلك من خلال النظر بدستورية التشريعات الاتحادية والمحلية المخالفة لأحكام الدستور,والأمر نفسه بالنسبة للمحكمة الدستورية الألمانية فقد جاء في المادة(1/أولاً) من قانونها بأنها تعد محكمة اتحادية مستقلة لا تخضع لأي مؤسسة أخرى خلال ممارستها لمهامها الدستورية.
ونخلص إلى أن للمحكمة الاتحادية العليا قدسية وأهمية تبعدها عن أي مقارنة مع أي جهة قضائية أخرى وبالتالي لا حاجة إلى إجراء مقارنة بينها وبين باقي المكونات مع تقديري لجميع مكونات السلطة القضائية الاتحادية ,إلا أنه في الحقيقة للمحكمة استقلالاً مالياً وإدارياً ووظيفياً,ولها دور كبير في أرساء مبادئ الدستور,فضلاً عن الحفاظ على المشروعية الدستورية وحماية الحقوق والحريات الدستورية.
وأخيراً إشارة إلى أهمية ودور قضاة المحكمة التي تمارس مهام القضاء الدستوري نشير إلى القاضي وآرن رئيس المحكمة العليا الأمريكية لاحظ بأن تاريخ بلده لم تخطه فقط ميادين القتال,ولا القوانين الفيدرالية التي أقرها الكونغرس الأمريكي,ولا الجهود التي بذلها رؤساء جمهورية بلده المتعاقبون,إنما دونه كذلك وإلى حد كبير قضاة المحكمة العليا الذين صاغوا بأحكامهم منهجاً فريدا لتقدمها.