19 ديسمبر، 2024 10:49 م

في ذلك اليوم المشمس الذي جاء بعد أيامٍ من الشتاء والبرد القارص، أُفرغت حينها الشوارع في القرى الجبلية من المارة والمتسكعين على أبواب دكاكينها الصغيرة، يتسارع الناس إلى الذهاب إلى منتزه تلك المدينة العروس في يومٍ أزهرت فيه الشمس لساعات.. عاد لنا اللون والعافية قبل أن نَرجِعَ إلى مخدعنا بعد يومين تماماً.
ذلك المكان الذي كان يَعُج بالزوار الهاربين من بيوتهم الباردة الفاقدة للتهوية، الزاخرة بالرطوبة، يحمل كل واحدٍ منهم سترته الاحتياطية، والبعض الآخر يبحث عن مركز الشمس، البعض منهم يمتطي خيوط الشمس بخياله، وينسج منها بعضاً من أحلامه المركونة بعيداً.
يتنافسون فيما بينهم في المجيء إلى تلك المدينة.. لم تسمح لهم السلطات بخرق إجراءات “كورونا” التي منعت التنقل بين المحافظات حتى بين الشمس والغيمة، لكن وبرغم الحواجز إلا أنهم نجحوا في المجيء.
تُذيب الشمس كل خيوط الملل، وتثني على الأمل الذي قد يمر في لحظةٍ فارغة، تلك اللحظة التي طلبت فيها فتاة مستلقية على عشبٍ أوشك أن يجف، من ذلك الشاب الذي ركن نفسه تحت شجرة السرو المنقوش عليها بعض أسماء العشاق العابرين، أو ربما المبهمين بالنسبة للعامة وليس على المكان، بعضاً من عود الثقاب تُشعلها لأول مرةٍ على حين غرةٍ، لا لشيء، إلا من أجل التمرد على ذلك اليوم.. ليس لرجل الأمن هناك أي سلطة على لحظة التمرد.
ولأن زمن كورونا كان مختلفاً كلياً عن ما قبله، فالأمر هنا مختلف، فلم تكن تلك الطالبات يطلبن من عمرهن سوى لحظة فرحٍ. فرحة التخرج أمام أعين الناظرين في مشهدٍ رسمنهن في مخيلتهن كثيراً.. لا بد من الفرح قليلاً.. حتى لو كانت لحظة الفرح هذه آتيةٌ رغماً عنها. تحمل كل واحدة منهن وردة وقبعة سوداء وبطاقةٌ أفرغت من الزوار.. ودمعة.
تطلب المصورة الفوتوغرافية التي تفرغت لهن طيلة اليوم مقابل مبلغٍ من المال، من إحداهن أن ترسم على وجهها بعض الابتسامات قبل أن تلتقط لها صورةٌ ستحتفظ بها إلى الأبد، تركز على أخرى برفع رأسها قليلاً ثم تضغط على زر الكاميرا على عجل.
ستحتفظ كل واحدة منهن بعشرات الصور، تلك أقل الخسائر بعد أن منعت الجامعات إقامة حفلات التخرج للطلاب، اكتفين بارتداء زيّ التخرج بعيداً عن أروقة وزوايا مكان الدراسة، واخترن المكان الذي سيصنعن فيه ربما أول إنجاز.. ذلك الإنجاز الذي أصبح لا يسمن ولا يغني من جوع.. قليلٌ من ملامح الخجل، والابتسامات المنقوصة بشيءٍ ما يتركن المكان ويتسللن بين الأشجار الفارعة ويختفين بعيداً كغروب شمس الشتاء بعد قليل.. بعد وصولهن البيت.
لم يختلف المشهد كثيراً في الشارع المقابل الذي امتلأ بالباعة المتجولين الذين ما زالوا عبئا على البلدية حتى في زمن كورونا وما أصاب الناس من ضنك العيش، بائع القهوة المرة، بائع الفجل، بائع الإكسسوارات المزيفة، سائق التاكسي الذي يركن بجانب الشارع يدخن سيجارته بشراهة.. صحيح نسيت أن أذكر أن البلدية لا دخل لها، فهذه المظاهر خارقة للقانون بالنسبة لهم فهم يطبقون القانون على حد تعبيرهم.. البلدية.. تلك الكلمة التي تثير الرعب لدى الباعة المتجولين بعرباتهم الصغيرة.
السيجارة هنا لها حكاية أخرى مع سائق التاكسي.. بدا عليه التعب والإرهاق ليس من كثرة العمل طبعاً بل لضيق الحال، فاختار مساحة من الشارع ليمارس حقه في الاعتراض على الواقع، لكنه لم يجد ما يقوله.. لمن يقول؟ لا أحد هنا يأبه له منذ أن أخرج له والده شهادة ميلاده.
عود الثقاب كانت تملأ أرضية سيارته دون أن يكترث لهذا المشهد الغير حضاري بالنسبة للبعض من الناس.. كان لا بد له أن يعترض بأسلوبه الخاص.
أما بالنسبة للسيجارة التي بين أصابعه فقد أخذت في طريق احتراقها جزءا من أصابعه الخشنة دون أن ينتبه لتفاصيل لم تعد تعنيه.
كان صوت فيروز في ذلك الصباح ينسج خيوط تلك التفاصيل الصغيرة، حال هؤلاء كمناجاتها لخالقها عندما طلبت منه في أغنيتها أن لا يهملها ولا ينساها.. حينها ناجته باسم شمس المساكين ووصفت وطنها بأرض الخوف. لم تبالغ عندما قالت “بلدي صارت منفى”.
أما أنا فأقول كما قال الدرويش:
فرحاً بشيءٍ ما خفيِ, كُنتُ أَحتضن الصباح بقوة الإنشاد, أمشي واثقاً بخطاي، أمشي واثقاً برؤاي. وَحيٌ ما يناديني: تعال! كأنَه إيماءةٌ سحريةٌ, وكأنه حُلمٌ ترجل كي يدربني على أسراره، فأكون سيدَ نجمتي في الليل.. معتمداً على لغتي. أَنا حُلمي أنا. أنا أُمُّ أُمّي في الرؤى, وأَبو أبي, وابني أَنا. فرحاً بشيءٍ ما خَفيِّ، كان يحملني على آلاته الوترية الإنشادُ. يَصقلني ويصقلني كماس أَميرة شرقية ما لم يُغَنَّ الآن في هذا الصباح فلن يُغَنّى
أَعطنا، يا حُبُّ, فَيْضَكَ كُلَّه لنخوض حرب العاطفيّين الشريفةَ, فالمُناخُ ملائمٌ، والشمس تشحذ في الصباح سلاحنا، يا حُب، لا هدف لنا إلاّ الهزيمةَ في حروبك.. من لا يحب الآن في هذا الصباح فلن يحب.

أحدث المقالات

أحدث المقالات