دوخني قول الشاعر أبي العلاء المعري :
قَد كُنتَ في دَهرِكَ تُفّاحَةً
وَكانَ تُفّاحُكَ ذا آكِلَك !
فهل يقصد أنَّ هناك آكل ومأكول باستمرارٍ؟
ومناسبة توقفي عند هذا البيت الشعري هو السؤال الملح الذي راودني حين قضمتُ تفاحةً خاليةً من الرائحة العطرية لها، فهل تغيرتْ رائحة التفاح في العصر الديمقراطي عمّا قبله في (الزمن الجميل)؟
وهل هناك تخريبٌ طرأ على حياتنا في السنوات الأخيرة؟
أقول : لقد لمسته باليد واللسان والأنف من خلال رائحة التفاح ! وذلك لأنَّي افتقدتُ في التفاح الذي أتناوله في هذه الأيام تلك الرائحة الزكية التي كنتُ أشمها في وقتٍ كان الحرمان والخوف وفقدان الأمان يطبق علينا من كل مكانٍ، ومع ذلك فقد كان تناول التفاح الأحمر حدثاً استثنائياً لا يُمكن أن يغادر الذاكرة أبداً !
لم أكن سابقاً مهتماً بما تؤكد عليه مراكز الأبحاث أنَّ تناول تفاحةٍ واحدةٍ يومياً يبعدك عن أمراض القلب، فقد كنتُ آكل التفاح لذاته، ولكونه تفاحاً يستحق الأكل، وكنّا على موعدٍ سنويٍّ مع التفاح هو ليلة رأس السنة الميلادية، فالدخل الشهري محدودٌ لا يسمح الا بشراء البرتقال في الشهر مرةً واحدةً، أمّا الموز فكنّا ننتظر حلول شهر رمضان؛ لنستمتع برؤية الموز موضوعاً على مائدة الخليفة العادل أو الملك السعيد في أحد المسلسلات التاريخية !
ولو استثنينا التفاح الأخضر الصغير رفيق الطفولة والفقر والحصار فإنَّ التفاح الحقيقي كان تفاح مناسباتٍ، ولا يوضع الا على موائد الأثرياء !
مع كل هذا الحرمان فقد كانت للتفاح رائحةٌ مميزةٌ تشمها على بعد أمتارٍ، فضلاً عن هشاشة قشرته وطعمه اللذيذ، فما الذي حصل ليفقد التفاح الحالي رائحته وطعمه؟ هل تغيرت ظروف زراعته وجنيه وتسويقه؟
قد يقول قائل :إنَّ التفاح المعاصر مستوردٌ ومعالجٌ كيمياوياً.
وأقول : ومتى كان التفاح الجيد غير مستورد؟
وأعود إلى شبهة المعري التي كررها الكاتب محمد عفيفي في روايته الفكاهية (التفاحة والجمجمة) الصادرة عام ١٩٦٥ م فهو يتساءل بعد نجاة ركاب السفينة من الغرق إثر تحطم سفينتهم : (فماذا يمكن أن يحدث لنا؟ ينقلب المركب فيأكلنا السمك؟ أكلناه كثيراً فلماذا لا يأكلنا مرةً من نِفسه؟ وماذا لو تحولتُ من آكل للبروتين إلى جزيء بروتين في خلية سمكة؟ ما الفرق في النهاية بين أن أعيش في خلية أو في الغلاف الجوي لكوكبٍ؟
إنَّ الحقيقة المريرة التي لا يريد الكثيرون الاعتراف بها، ومواجهتها هي أنَّ تخريباً حصل في عصرنا التكنولوجي المسلفن والمعلب ، وقد يكون هذا التخريب أصاب قيمةً كبيرةً كنا نلوذ بها في حياتنا المغلفة بالخوف والرجاء الا وهي القناعة .. تلك القناعة التي تجعلنا نفرح بما نحصل عليه حتى لو كان شيئاً بسيطاً، ونزهد بالأشياء التي لا تتسع لها أحلامنا التي كنّا لا نمدها الا على قدر أغطيتنا !!