22 ديسمبر، 2024 4:28 ص

تتخوف بعض قوى اليمين المتطرف في شمال وغرب العراق، من ظاهرة التغيير الديموغرافي، في المناطق التي تعرضت للدمار، بعد سيطرة السلفيين المتشددين عليها بين عامي (2014 – 2017). ومازالت أجزاء عديدة منها خالية من السكان، الذين يعيش بعضهم في مخيمات للنازحين حتى هذه اللحظة.
ويعلم الجميع أن الموضوع مختلق، ولا أساس له من الصحة. فلا أحد في العالم يفضل السكنى في مناطق خربة. وليس ثمة من لديه الاستعداد لمغادرة مدينته التي يعيش فيها وسط أهله وعشيرته ورفاقه، ليسكن في مناطق خالية من الناس والخدمات. ربما يتوق مثل هؤلاء للهجرة إلى دول أوربا وأميركا مثلاً، لأسباب كثيرة منها الطبيعة الخلابة، والدخل المرتفع، والخدمات غير المحدودة، والقانون الصارم، وغير ذلك. لكنهم لا يمكن أن يفكروا في الاستقرار في مدن صحراوية أو شبه صحراوية، في الأنبار أو الموصل أو صلاح الدين، أو غيرها من المدن التي ماتزال تفتقر إلى أبسط مقومات العيش اليومية. ولا توجد فيها مصادر رزق مضمونة. وربما تحتاج إلى سنوات طويلة حتى تعيد بناء نفسها، وتصبح قادرة على استعادة أبنائها النازحين.
والواقع أن من الصعب تصور عودة هؤلاء النازحين الذين استوطنوا العاصمة وبعض المدن الأخرى في الشمال إلى مقر سكناهم الأصلي في هذه البقاع. وسيبقون على الأرجح مرابطين في مهاجرهم هذه، بعد أن ألفوا حياتهم الجديدة، التي مضت عليها سنوات عدة. شخصياً، أعرف أن نسبة كبيرة من سكان الحي الذي أعيش فيه، هم في الأصل من نازحي عام 2014، من الذين مكنتهم أوضاعهم المادية من استئجار أو شراء منازل في العاصمة.
إن هذه الحال تكررت أكثر من مرة باتجاهات متنافرة. فالكثير من الأسر التي كانت تقطن في بغداد في الأحياء التي شهدت توتراً طائفياً، عادت إلى مدنها الأصلية التي هاجرت منها في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، في النجف وكربلاء وبابل وغيرها. فقد كان البقاء في بغداد بعد عام 2004 محفوفاً بالمخاطر. وكانت مدن الفرات الأوسط آمنة إلا من خروقات تقوم بها المنظمات السلفية بين الحين والحين. أي أن بغداد التي كانت دار هجرة لأبناء المحافظات الأخرى في الشمال والوسط والجنوب لم تعد كذلك بعد التغيير العاصف في نيسان 2003. وإن كانت استعادت وظيفتها هذه بعد عام 2014.
وهكذا فإن التغيير الديموغرافي الذي يتحدث عنه بعض ذوي الأغراض من أبناء المحافظات الغربية لا يمت للواقع بصلة. وليس له رصيد من الحقيقة. وربما ستظل هذه المحافظات طاردة للسكان إلى سنوات طويلة. ذلك أن الأفكار التي عششت فيها، وحولتها إلى حاضنات شديدة العداء لمن يخالفها في الرأي، ماتزال موجودة فيها. رغم أنها – أي هذه الأفكار – تمر الآن بمرحلة سبات بعد الضربات الشديدة التي تلقتها في جبهات القتال.
والواقع أن هذه المحافظات ستكون محظوظة جداً، لو شهدت هجرة معاكسة، يقوم بها أبناء المحافظات الوسطى والجنوبية، في هذا الوقت بالذات. فالمهاجرون الجدد سيملئون الفراغ الذي شغر بنزوح أبنائها نحو الشمال والجنوب، وسيجعلون منها مرة أخرى مدناً قابلة للسكنى، والعيش الكريم، بعد أن أقفرت، وتهدمت، وباتت موطناً للأشباح. كما سيكونون عاملاً من عوامل التسامح والتعايش بين أبناء المكونات المختلفة.
إن شيئاً من التغيير السكاني، سواء جرى ذلك بإرادة شخصية، أو حكومية، أو طائفية لم يثبت على أرض الواقع، ولم يصرح به أحد من المسؤولين المحليين. فهو محض خيال يقصد به إثارة كوامن العداء. إلا أن من الجميل أن يظهر للواجهة من جديد، حتى لو كان ذلك محض تقولات بغرض الإساءة لا غير. فإعادة دمج المكونات العراقية هو عمل مجيد دون شك. وكان سمة مميزة للعراق في القرن الماضي. أي قبل صعود اليمين القومي المتطرف في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. وفي تلك الحقبة كانت هناك مكونات أخرى لم تعد موجودة الآن، بعد أن اضطرت للهجرة إلى دول الشمال، أو إلى بعض الدول الآسيوية. فقد كانت أعداد كبيرة من الآثوريين (الذين يطلق عليهم الآن اسم الآشوريين)، والأرمن، والكلدان، تقطن في الفاو وأم قصر في أقصى جنوب العراق. وكانوا يمارسون حياتهم بشكل طبيعي وسط المسلمين دون أية مشاكل. كما كانت هناك أعداد قليلة لكنها بارزة، من الأسر الهندية، تسكن في منازل متواضعة متفرقة في الفاو خصوصاً. وكانوا يزاولون أعمالهم الخاصة، ويحظون بمحبة وصداقة الجميع. وغني عن البيان أن هذه المناطق، وهي عبارة عن موانئ ومنصات لتصدير النفط، كانت تضم عراقيين من محافظات شتى، ومذاهب إسلامية مختلفة، دون أن يشكل ذلك أي عامل توتر أو احتكاك أو كراهية على الإطلاق. وعودة مثل هذه الحياة في الشمال أو الجنوب، ستكون من محاسن العصر الجديد، إذا ما حدث حقاً. وهذا هو ما لا يشتهيه الطائفيون والغلاة آنفو الذكر.
سيكون من نوادر الزمان أن تنتقل قبائل عربية من الأهوار الجنوبية مثلاً للسكنى في الفلوجة أو تكريت أو سنجار. وتبدأ هناك حياة جديدة آمنة. فمثل هذا الأمر يعني عودة الأمان والاستقرار والهدوء إلى مدن افتقدتها لوقت طويل.