يمكنُ تغييرُ سلوكِ الانسانِ بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ، ولكنْ فعالةٍ، من خلالِ نظريةِ (التنبيهِ أو الوخزةِ) التي كتبَ عنها الحاصلُ على نوبلِ للاقتصادِ (Richard Thaler) في كتابهِ (التنبيهِ – Nudge) والذي يبحثُ فيهِ عن الأسبابِ التي تدفعُ الأشخاصَ للاختياراتِ السيئةِ أو غيرِ العقلانيةِ في قراراتِهم.
في هذهِ النظريةِ يكونُ العملُ على المستوى اللاشعوري لحملِ الناسِ على تغييرِ سلوكياتِهم الخاطئةِ بتوفيرِ بدائلَ مرغوبٍ فيها مع بقاءِ حريتِهم بالاختيارِ، بمعنى أنْ يكونَ هناكَ تدخلٌ طفيفٌ، غيرُ مباشرٍ وخفيٍ، يعتمدُ على الدوافعِ النفسيةِ، لتحفيزِ الفردِ على القيامِ بسلوكٍ صحيحٍ مع احتفاظِه بحريةِ التصرفِ والاختيارِ، بمعنى ثانٍ: (سأدفعُكَ بإتجاهِ مصلحتِكَ ولكن سأتركُ لكَ الاختيارَ).
هذا الأسلوبُ أكثرُ فاعليةٍ من حملاتِ التوعيةِ التقليديةِ التي تستندُ على المنطقِ لتوضّحَ للناسِ لماذا يتعينُ عليهم القيامُ بسلوكٍ ما أو عدمِ القيامِ بهِ، لأن الناسَ لا يغيرونَ سلوكَهم الخاطئ لمجردِ توجيه نصائحَ لهم، فهم غالباً يعرفونَ انَّ هذا السلوكَ خاطئٌ ومع ذلكَ يمارسونه!
لقد أدركتْ الحكوماتُ أنَّ عمليةَ صنعِ القرارِ البشري لا تعتمدُ على العملِ العقلاني فقط، بل على أشكالٍ أكثرُ تحفيزٍ عاطفياً، وعليها انْ لا تعتمدَ بالكاملِ على العقلانيةِ المطلقةِ وتهملُ الجوانبَ النفسيةَ والعاطفيةَ والثقافيةَ للشعوبِ.
وهذا ما قامتْ بهِ أكثرُ من (50) دولةً في العالمِ، حيثُ أسستْ إداراتٌ حكوميةٌ تهتمُ بتغييرِ سلوكِ مواطنيها، مثلُ فريقِ الرؤى السلوكيةِ Behavioral Insights Team – BIT)) البريطاني، ومكتبِ سياساتِ العلومِ والتقنيةِ (Office of Science and Technology Policy) الأمريكي.
تعملُ هذهِ الإداراتُ على تغييرِ السلوكِ وفقَ مبادئَ عدةٍ، منها:
المبدأ الأول: الإنسانُ يكرَهُ الخسارةَ أكثرَ مما يحبُ الربحَ:
انَّ عبارةَ: “إذا لمْ تُرشدْ استهلاكَ الكهرباءِ فسوفَ تخسرُ 50 ألفَ دينارٍ شهرياً”، أكثرُ فاعليةً من عبارةِ: “من خلالِ ترشيدِ استهلاكِ الكهرباءِ فسوفَ توفرُ 50 ألفَ دينارٍ شهرياً”، لان العبارةَ الأولى تحذرُ الانسانَ من الخسارةِ وهي أكثرُ شيءٍ يكرهُه!
مثالٌ آخر: تمَّ تقسيمُ موظفي إحدى الشركاتِ الى (3) مجموعاتٍ، الأولى بقيتْ دونَ أي تأثيرٍ عليها، والثانيةُ وُعدوا بمكافأةٍ في نهايةِ العامِ إذا حققوا مستوى معينٍ من الإنتاجيةِ، اما الثالثةُ فقد تمَّ منحُهم المكافأةَ في بدايةِ العامِ، على أنَّ يردوها في نهايةِ العامِ إذا لم يحققوا المستوى المطلوبِ من الإنتاجيةِ، وفي نهايةِ العامِ كانَ أداءُ المجموعتينِ الأولى والثانية متقارباً، أما الثالثةُ فقد كانتْ أفضلَ بكثيرٍ، طبعاً لان الناسَ يكرهونَ الخسارةَ أكثرَ مما يحبونَ الربحَ، كما يقولُ (Thaler): “الأفرادُ يولون قيمةً أكبر لشيءٍ ما إنْ كانوا يملكونه، أكثرَ مما إذا كانوا لا يملكونه”، وهذا يذكرُنا بالمثلِ الدارجِ: (عُصْفورٌ في اليَدِ خَيْرٌ مِنْ عَشَرِةٍ عَلى الشَّجَرَةِ).
المبدأ الثاني: تصرفاتُ الانسانِ لا تستندُ على العقلِ دائماً:
وهذا عكسُ المبدأ الليبرالي الذي يفترضُ ان الانسانَ يتخذُ قراراتهِ الاقتصاديةِ على أسسٍ عقليةٍ، لأنه يسعى دائماً لتعظيمِ مواردهِ وتقليلِ تكاليفهِ (نظريةِ المنفعةِ المتوقعةِ)، ولهذا فإنَّ الاقتصادَ كلّهُ يتحركُ دائماً وفقاً لسلوكياتٍ رشيدةٍ تعتمدُ الحقائقَ.
لكن علمُ الاقتصادِ السلوكي (Behavioral Economics) يُبينُ أنَّ قراراتِ الانسانِ اليوميةِ تخضعُ لاعتباراتٍ آخرى، مثل: العاطفةِ، العدالةِ، المساواةِ، الغيرةِ، الحسدِ، وغيرها، بل أنَّ بعضَ خياراتهِ لا تخضعُ للعقلِ اصلاً، بالنهايةِ الانسانُ ليسَ كومبيوتر!
في تجربةٍ لإحدى الجامعاتِ تم منحُ طالبينِ مبلغاً قدرهُ (1000 $) كمكافأةٍ على تفوقهما الدراسي، وطلبتْ من الطالبِ الأولِ اقتسامُ المبلغ مع زميلهِ بأيَّ نسبةٍ يشاءُ، بشرطِ أن يرضى بالقسمةِ، أما إذا لم يوافقْ فسيتمُ سحبُ المكافأةِ منهما، طبعاً في حالةِ قيامِ الطالبِ بقسمةِ المبلغِ بالتساوي، فسيرضى زميلهُ ويربحُ الاثنان، أما إذا أخذ الأولُ (%70) من المبلغِ لنفسهِ ومنحَ الباقي لزميلهِ فسيعترضُ وتُسحبُ المكافأةُ.
أكيدُ أنَّ العقلَ يقتضيُ من الطالبِ الثاني الموافقةِ على أيّ مبلغٍ مهما كانَ ضئيلاً، لأنهُ أفضلُ من لا شيءٍ، إلا أنه لنْ يفعلَ ذلكَ! فهنا القرارُ لا يعتمدُ على العقلِ بل على مبدأِ العدالةِ أو ربما الغيرةِ أو حتى الحسدِ!
كما أنهُ من المعروفِ ان انخفاضَ سعرِ سلعةٍ ما فإنَّ قانونَ العرضِ والطلبِ يفترضُ أنَّ المستهلكينَ سيشترونَ المزيدَ منها، لكن بعضَ الناسِ سيعزفونَ عن شرائِها لاعتقادِهم أن سعرَها المتدني يعني أنَّ الجودةَ منخفضةٌ!
المبدأ الثالث: تفضيل الوضع الحالي:
الانسانُ بطبعهِ يفضلُ الوضعَ الذي يجدُ نفسَهُ فيهِ ويتعايشُ معهُ، لان التغييرَ صعبٌ على الطبيعةِ البشريةِ، ولهذا عندما ارادتْ الحكومةُ البريطانيةُ زيادةَ الادخارِ ورفعَ قيمةِ اشتراكِ عمالِ القطاعِ الخاصِ في صندوقِ التقاعدِ طلبتْ من أربابِ العملِ وضعَ العمالَ في نظامٍ يتمُ من خلالِه خصمُ الاشتراكاتِ من الرواتبِ تلقائياً، إلا إذا طلبوا رفعَ أسمائِهم من النظامِ، وكانتْ النتيجةُ انَّ أغلبَ الموظفينَ وافقوا على الدفعِ.
كما انَّ الشركاتِ تمنحُ المستخدمينَ اشتراكاً مجانياً في تطبيقاتِها لمدةِ شهرٍ مثلاً، وبعد انتهاءِ الشهرِ يُلغى الاشتراكُ إذا لم يرغبْ المستخدمُ بالاستمرارِ، وفعلاً الكثيرُ منهم يظلونَ على وضعِهم ويكملونَ الاشتراكَ وخصوصاً عندما يتم الدفعُ عن طريقِ (Credit Card) ولا يحسونَ بالقيمةِ التي يدفعونها.
المبدأ الرابع: الاستسلامُ للقطيع:
يستسلمُ معظمُ الناسِ للآراءِ الشائعةِ، ويحبونَ بالغالبِ ان يقلدوا غيرَهم (حشرٌ مع النَّاسِ عيدٌ)، ولهذا عندما تروجُ الشركاتُ لسلعةٍ معينةٍ تذكرُ بالإعلانِ “أن كلَّ الناسِ تشتريها” بدلاً من أنَّ تعددَ مزايا تلك السلعةِ، وبالتالي فإنَّ متلقي الإعلانِ سيشترونَ السلعةَ تلقائياً.
في سنغافورةَ، عندما تُرسلُ ايصالاتُ استهلاكِ الكهرباءِ والغازِ للمواطنينَ يُكتبُ فيها مقدارُ استهلاكِ جيرانِهم لغرضِ المقارنةِ، فكانتْ النتيجةُ انَّ الأكثرَ استهلاكاً للطاقةِ قللوا استهلاكَهم ليكونوا مثلَ جيرانِهم.
المبدأ الخامس: الانسانُ يتفاعلُ مع التعليماتِ غيرِ المباشرةِ أكثرُ من المباشرةِ:
معظمُ الناسِ يكرهونَ توجيهَ الأوامرِ لهم، بل يقاومونَها غالباً، ولكنهم يتفاعلونَ معَ التعليماتِ غيرِ المباشرةِ لأنهم لا يشعرونَ انَّهم مجبرونَ على اتباعِها، بوجودِ بدائلَ عدةٍ لاتخاذِ القرارِ.
فلتشجيعِ الطلابِ الأمريكيين على تناولِ الغذاءِ الصحي تم إعادةُ ترتيبِ الطعامِ في المطاعمِ بوضعِ الفواكهِ والخضرواتِ في المقدمةِ حتى يراها الطلابُ أولاً، مما أدى إلى زيادةِ الطلبِ عليها.
وفي مدينةِ (Mumbai) الهنديةِ تم حذفُ كلمةِ (السريعِ) من عبارةِ (طريقِ مومباي السريعِ)، فقامَ السواقُ لا ارادياً بتقليلِ سرعةِ سيارتِهم!