23 ديسمبر، 2024 5:46 ص

حالة الاضطهاد والضنك واستلاب الحقوق والحريات تدفع الناس للخروج، اي ان الخروج ياتي بصورة غير مخطط لها وانما فقط لان السكوت لم يعد ممكنا والحال وصلت حداً لا يمكن كبته، أو منعه من الانفجار. وفي مثل هذه الحالة غير المخطط لها تكون الخطوة التالية مجهولة.. فلا احد يعرف كيف ستكون صورة النظام المقبل، وما هي حدوده، وطبيعته، وهل هو نظام جديد حقا أم سيعيد دورة الحياة السابقة، بأشكال، وأقنعة مختلفة؟ ما يملكه المنتفضون عادة هو تصور مجمل غامض .. هم يدركون جيداً أنهم يريدون شيئا اخر غير النظام الحالي؛ هذه هي الفكرة الوحيدة التي تسكن رؤوسهم، هم غاضبون وساخطون وثائرون على النظام القائم لكنهم لا يملكون تصورا ايجابيا عن النظام الجديد الذي يتطلعون له، يملكون تصورا سلبيا فقط، فهم يدركون ان النظام الجديد ينبغي ان يكون خلوا من جميع السلبيات التي ميزت النظام السابق.. وعادة ما يدخل اليهم النظام الجديد من باب تصورهم هذا، فاول شيء يفعله هو الضرب على رموز النظام القديم .. الرموز اشخاصا ومؤسسات. فاذا كان الناس ساخطين على شخص يتم زجه في السجن او اعدامه، واذا كانوا ساخطين على بنية اقتصادية معينة مثل الملكية الفردية يتم تحريمها وهكذا.

فكرة ان النظام الجديد ينبغي ان يكون مختلفا عن السابق فكرة تقترب كثيرا من فكرة طلب المثال او الكمال، فانت تسخط على النظام الفعلي .. على هذا النقص او ذاك، ولكنك قد لا تعي ان ما تسخط عليه ليس هذا النقص المعين، يعني مثلا اذا كان النقص هو عدم وجود الكهرباء فانت تسخط لهذا، ولكنك في الابعد والاعمق تسخط من النقص بما هو نقص اي ليس هذا النقص المعين (الكهرباء) وانما كل نقص، لذلك اذا تحققت لك الكهرباء وسُد هذا النقص سيتجه شعورك لامور اخرى تنقصك، وهكذا كلما سُد نقص ستلتفت لنقص اخر كان خافيا لان النقص الفعلي اقوى واقرب الى الشعور. انت اذن في الحقيقة تطلب الكمال، وهذا هو ما يحركك في التحليل الأعمق، ولهذا عندما ياتي النظام الجديد ستراه جيدا للوهلة الاولى لانه حقق لك النقص المعين ولكن مع الايام ومع بروز نقوصات اخرى، او بسبب ان النظام الجديد غير مؤهل لسد النقص الفعلي سيتجدد السخط وتشعر انك لم تنجز التغيير المطلوب وان ما حدث هو تدوير لا تغيير.

اذن، من الضروري بمكان ان يكون الشعب واعيا بحقيقة ما يحركه، وبماهية الأهداف التي يتطلع لها، لكي ينجز تغييرا حقيقيا، ويتجنب الاخطاء التاريخية السابقة التي جعلت من الحياة الانسانية عملية اجترار لاخطاء تتناسل دون توقف.

هناك كذلك الانتهازيون ومختطفوا الثورات (الاخوان في مصر، ثم العسكر. السفيانيون والوهابيون في سوريا، وليبيا الخ)، هؤلاء يستغلون الحالة الثورية غير المخطط لها، او غير الواعية باهدافها الحقيقية فيندسون فيها ويبدأون بالترويج لشعارات واهداف خاصة بهم، بعد تمويهها، واظهارها بمظهر مغرٍ. ويبدو ان الانتفاضة العراقية بدأت تشهد مثل هكذا محاولات، فالبعض بدأ يروج لرفض كل ما يمت للاسلام بصلة بذريعة ان فساد النظام الحالي يتحمل وزره الاسلاميون. وهناك مثال آخر مقابل يتمثل بسعي جهات، وقنوات محسوبة على الاسلاميين (كما يسمون أنفسهم) باتت تروج لدور أبوي تتبناه المؤسسة الدينية على المنتفضين، الهدف منه الالتفاف على الانتفاضة وتحجيمها وابقائها تحت السيطرة، أو قل تحت مظلة المؤسسة الدينية.

يجب رفض الشعارات التي تدعو لهذا الطرف او ذاك، وخاصة تلك التي تدس السم في العسل، فتقدم الشريك المهم في الفساد (المؤسسة الدينية وأحزابها، ورجالاتها) على أنهم المنقذ القادر على انتشال الناس.