تعليم العراق: مستقبل على حافة الانهيار

تعليم العراق: مستقبل على حافة الانهيار

مًا منارة للعلم والمعرفة في المنطقة، على شفا انهيار شامل يهدد مستقبل أجيال بأكملها. لم تعد الأزمة تقتصر على تحدٍ معين، بل تحولت إلى شبكة معقدة من الإخفاقات تمتد من أساسات البنى التحتية المتهالكة إلى المناهج التي لا تواكب العصر، مرورًا بالفساد المستشري الذي ينخر في جسد هذا القطاع الحيوي.

بنية تحتية لا تليق بالعلم
تبدأ فصول المأساة من أبواب المدارس نفسها. آلاف المباني المدرسية في عموم العراق إما مدمرة أو آيلة للسقوط، وكثير منها يفتقر إلى أبسط مقومات البيئة التعليمية الصحية، مثل المياه الصالحة للشرب، الكهرباء، وحتى المقاعد الدراسية. الاكتظاظ الشديد في الفصول الدراسية، الذي يجبر المدارس على اعتماد نظام الدوام الثنائي أو الثلاثي، يحوّل العملية التعليمية إلى مجرد محاولة لإدارة الأعداد الهائلة من الطلاب بدلًا من التركيز على جودة المعرفة المقدمة. هذه البيئة المادية المتردية لا تقتل دافعية الطالب للتعلم فحسب، بل تمثل إهانة لقدسية العلم والمعلم.

مناهج معزولة عن العصر
في عالم يتسارع فيه التقدم العلمي والتكنولوجي، لا تزال المناهج الدراسية في العراق تراوح في مكانها. تعتمد الأساليب التعليمية بشكل كبير على التلقين والحفظ، وتفتقر إلى تنمية مهارات التفكير النقدي، والإبداع، وحل المشكلات لدى الطلاب. المحتوى التعليمي في كثير من الأحيان لا يرتبط بمتطلبات سوق العمل الحديث، مما يخلق فجوة هائلة بين مخرجات النظام التعليمي واحتياجات الاقتصاد الوطني. النتيجة هي تخريج أفواج من الشباب يحملون شهادات نظرية دون أن يمتلكوا المهارات العملية اللازمة لبناء مستقبلهم والمساهمة في تنمية بلدهم.
معلمون مهمشون وطلاب تحت خط الفقر
يعاني الكادر التعليمي، وهو العمود الفقري لأي نظام تعليمي ناجح، من تهميش وإقصاء ممنهج. فالرواتب المتدنية، ونقص برامج التدريب والتطوير المهني، وانعدام الحماية والاحترام الاجتماعي، كلها عوامل أدت إلى تراجع مكانة المعلم وتآكل شغفه بالمهنة. في المقابل، يواجه الطلاب تحديات اقتصادية قاسية. تجبر الظروف المادية الصعبة الكثير من الأسر على إخراج أبنائها من المدارس ودفعهم إلى سوق العمل في سن مبكرة، مما يغذي دائرة الجهل والفقر. الطالب الذي يذهب إلى المدرسة بذهن مثقل بهموم توفير لقمة العيش لعائلته لا يمكن أن يكون متعلمًا فعالًا.

فساد ينخر الأساسات
لعل الخطر الأكبر الذي يواجه التعليم في العراق هو الفساد الإداري والمالي الذي استشرى في كل مفاصله. تتجلى هذه الآفة في صور متعددة، بدءًا من العقود الوهمية لبناء المدارس وترميمها، وصولًا إلى المحسوبية والمحاصصة في تعيين المناصب القيادية في وزارة التربية. إن إناطة إدارة هذا القطاع الحساس بشخصيات تفتقر إلى الكفاءة والخبرة، وتغلب ولاءاتها السياسية على مصلحة الوطن، هو السبب الجذري في فشل كل محاولات الإصلاح. عندما يصبح المنصب التعليمي غنيمة سياسية، يتحول التعليم من وسيلة لبناء الأمة إلى أداة لهدمها.

الطريق نحو الإنقاذ: إصلاح شامل
إن إنقاذ التعليم في العراق يتطلب ما هو أكثر من الحلول الترقيعية؛ إنه بحاجة إلى ثورة إصلاحية شاملة تبدأ من أعلى الهرم. يجب أن تكون هناك إرادة سياسية حقيقية تضع التعليم على رأس أولويات الدولة، وتعمل على:
* إطلاق مشروع وطني لإعادة تأهيل وبناء المدارس وتوفير بيئة تعليمية لائقة.
* تحديث المناهج الدراسية بالاستعانة بخبراء دوليين وعراقيين لضمان مواكبتها للعصر.
* الاستثمار في المعلم من خلال تحسين وضعه المادي والمهني وإعادة الاعتبار لمكانته في المجتمع.
* محاربة الفساد بصرامة وتجفيف منابعه داخل المؤسسة التعليمية، واختيار القيادات على أساس الكفاءة والنزاهة لا الولاء.
مستقبل العراق يعتمد بشكل مباشر على القرارات التي تُتخذ اليوم في ملف التعليم. فإما أن يستمر هذا التردي الذي يقود إلى مستقبل مجهول، أو تبدأ مسيرة إنقاذ حقيقية تعيد للعراق مكانته كمنارة للعلم، وتضمن لأجياله القادمة حقهم في تعليم جيد ومستقبل مشرق.

أحدث المقالات

أحدث المقالات