23 ديسمبر، 2024 1:29 ص

تعقل بنية العالم الراهن من طرف ألان باديو

تعقل بنية العالم الراهن من طرف ألان باديو

” ينبغي أن نفهم جيدا التناقض بين العدمية القاتلة للفاشيين وانتشار التحطيم الامبريالي وفراغ العولمة الرأسمالية الذي لا يجوز ولا يجب أن نصير قائمين به”1[1]

أي تشخيص فلسفي للوضع العالمي راهنا يدعونا إلى التفكير النقدي واليقظة المعرفية وأي محاولة للتغيير وتقديم البدائل تنطلق من إثارة الأسئلة التالية:

إلى أين يتجه عالمنا منذ أن تم إخضاعه إلى عولمة مستمرة لكل أشخاصه وأشيائه سواء البضائع أو الأفكار؟

ماهي التأثيرات الكبرى لهذه البنية التي يتكون العالم الراهن على السكان والذاتيات وتنوعها وتشابكها؟

هل يمكن تقسيم العالم الراهن إلى أنماط من الذاتيات المتباينة والمتشابكة ضمن حركة تذويت متبادل؟

ألا توجد عدة صور من الحكم الفاسد تمارس أنماط من السياسات تتصف بالطغيان والاستبداد والشمولية ؟

ماذا الذي تطلبه عملية تغيير العالم بغية التخلص من الأمراض والكوارث والأعراض الإجرامية ؟

أي دور للدولة من جهة مؤسساتها وللمجتمع من زاوية تأثير فعاليه على الشأن العمومي في هذا التغيير؟

كيف يمكن بناء كتلة مقاومة ضد التمييز وتكوين فكر مختلف ينير درب الكرامة ويعيد سياسة الانعتاق؟

يمكن الاعتماد على الأستاذ الجامعي ألان باديو المولود سنة 1937 والذي لا يزال على قيد الحياة ولقد اشتغل في البداية في المركز الجامعي التجريبي فانسان والمعهد الولي للفلسفة ومدرسة الدراسات العليا ولقد تأثر بسارتر وألتوسير ولاكان والتزم بالتفكير في الوجود بالمعنى الأنطولوجي منخرطا في الوصف الرياضي للواقع وملتزما بالنضال في مسارات سياسية وفنية متناولا مسائل الذات والحقيقة والحدث ، الخ.

لقد كانت بدايته في التأليف مع كتاب نظرية الذات سنة 1982 و الوجود والحث 1988 والإيتيقا 1992 والقرن 2005 ولقد اشتهر ببيانه الأول من أجل الفلسفة الذي كتبه في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات وأعاد إصداره معدلا في نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وألف كتاب ظروف سنة 2007.

لقد آمن بأن التحرر من الأزمة يقتضي التخلص التام من النظام الأبدي لمجتمع الثروة والسلطة والقوة.

1-

إذا أردنا تسليط الضوء على البنية التي يتكون منها العالم الراهن من أجل وصف طبيعة المرحلة وتحديد الرهان فإننا نعثر على الأقل على ثلاثة عناصر تكوينية ومجموعة من الخصائص المنتشرة بشكل أفقي:

– لقد حرصت العولمة الرأسمالية المنتصرة على نشر ثقافة التفاهة والابتذال وعادت إلى النزعة التملكية الفردية من حيث هي الايديولوجيا التكوينية لليبرالية الكلاسيكية وسارعت إلى تعميم الجهل وتأبيد الغفلة وتسطيح الوعي وبرمجة الغباء من أجل تحويل الكائنات البشرية إلى حيوانات راغبة وآلات استهلاكية.

-التحكم الرأسمالي بطريقة عملية مباشرة في مختلف أنحاء الحياة البشرية والثروات الطبيعية في الكوكب أدى إلى إضعاف الدول وإنهاك المجتمعات وتفكيك البنى التقليددية للانتاج والتبادل دون القيام بإعادة بنائها وربط اقتصادياتها المحلية بالاقتصاد العالمي ضممن تقسيم دولي للعمل وتحرير التجارة وتدمير الفلاحة.

-لقد ظهرت ممارسات جديدة للهيمنة الامبريالية تعمل على ترجمة التوسع الرأسمالي في الكون وتقسم الثروة بين القوى الدولية الرئيسية ضمن عالم متعدد الأقطاب وتركز سلطة التحكم المباشر في الأرضية والإعلان عن زوال حقبة الاستقلال الوطني وإقفال ملف حركات التحرر الشعبي وسيادة الإمبراطوريات.

إذا كان انتصار العولمة الرأسمالية قد أدى إلى اعتماد السوق العالمي معيارا مطلقا للتاريخية الكوكبية فإن الوحشية العسكرية هي ثقافة صاعدة وأسلوب حضاري في التعامل مع المناوئين والخارجين عن السرب.

2-

لقد أفضت العولمة المتوحشة إلى بروز أشكال من التفاوت الحاد بين الشرائح الاجتماعية وإضعاف المقرة الشرائية وتعطيل ضرورات الحياة وشحن النزاعات الاجتماعية وتزايد الفقر والجريمة والأمية والبطالة.

واحد في المائة من سكان العالم يمتلكون نصف الموارد والثروات التي توجد في الكون ونصف السكان لا يمتلكون شيئا بينما يتصرف عشر السكان العالم في نصف الثروات المادية والموارد المالية ويترتب عن ذلك أن الطبقة الوسطى التي تمثل محور التربية والثقافة والسياسة تمثل أربعون في المائة من السكان وأن العشر هي الأولوغارشية التي تحكم في عالم السياسة والمال وتمسك بالقرارات الخاصة بمصير الكون.

3

لقد كشرت المركزية الأوروبية عن انحطاطها وتخلت بصورة علنية عن الموضوعية وأبرزت ما فيها من أحكام مسبقة وآراء متحاملة على الثقافات الأخرى والشعوب المغايرة وجسدت ذلك في إعادة إنتاج التوسع والهيمنة ورجعت لأسلوب التهديد والتدخل في شؤون الدول الضعيفة وحاولت إحياء النزعات الاستعمارية وأنتجت ذاتية نمطية تنقسم إلى أشكال من الاعتقاد وأسلوب في الحياة وطريقة في تدبير الوجود اليومي.

يمكن التفريق بين الذاتية الغربية التي تمسك بزمام الحكم في العالم وتنتج المعرفة والسياسة وتصدرها إلى العالم وتتحكم في الطبقة الوسطى وتمنحها وعيها بذاتها وتسهر على حمايتها وتدافع على مصالحها وبقائها في مستوى أول والذاتية التي ترغب في الثقافة الغربية وتحاكيها وتمثل امتدادا طبيعيا لها وتحاول اللحاق بها والهجرة إليها في مستوى ثان والذاتية العدمية التي تزدريها الثقافة الغربية وتحاول شطب وجودها وتنعتها بأبشع الصفات وتسعى إلى القضاء عليها وتظهرها في شكل التعصب والتخلف في مستوى ثالث.

4

كما تتسبب العولمة الرأسمالية وتتراجع دور النظرية الاجتماعية في السياسة والبدائل الاشتراكية لدولة العناية في ظهور النزعات الفاشية والتسلطية على السطح وتصدرت بعض الأصوات المنادية بعودة الحكم الفردي إلى المشهد السيادي قصد بناء دول قوية خارج النمط الذي ساد لمدة في الدول الشرقية والغربية.

تدافع الفاشية على سياسة تعميرية تجاه الذات وتدميرية تجاه الغير وتعتمد على العواطف الأنانية والأهواء الحدية والغرائز الوحشية والدوافع العنصرية والميولات اليمينية المتطرفة باسم المعتقد والمذهب والطائفة وتشحن المناخ السياسي برياح تشاؤم سوداوية وعواصف من الإقصاء وسحب دكناء كارهة للأجانب.

5

لقد شجعت أساليب العولمة المتوحشة على انتشار موجات الإرهاب وعملت بسياساتها الخاطئة على ظهوره وتناميه وتحويل الضحايا إلى قتلة والمنبوذين إلى مجرمين والمهمشين إلى أعضاء في شبكات التهريب وعصابات السلب والنهب وعناصر في الشركات الأمنية العابرة للدول وتغذي الحرب الشاملة.

لا مخرج من هذا المأزق سوى بوضع كل شيء في إطاره وتسمية الأشياء بمسمياتها واستعادة الوسائل الناجعة في بناء سياسة انعتاقية من الاستعمار والهيمنة الامبريالية وحسن استثمار مبادئ الاستقلالية في القرار والسيادة على الثروات وتأمين سلطة الدول على أراضيها وحسن انتفاعها بالمقدرات الذاتية.

لا يمكن مواجهة العولمة المتوحشة والخروج من الوضع المتفجر الذي يحاصره الإرهاب المعول مالا بإبداع فكر مختلف وفلسفة إنسية مغايرة للثقافة الاستهلاكية السائدة التي أغرقت الناس في حب التملك والممارسات الانتهازية والمتاجرة بالقيم وتسلعن كل شيء والمقاومة المنية للفاشية والتسلط والاستعمار.

لكن أين نحن من الانخراط في مقاومة مدنية للعدمية ؟ ألا تتحمل الثقافة الغربية مسؤولية العنف الذي اجتاحها؟ الم يأتها الشر من داخل عنصريتها؟ وماهو الشغل الذي ينخرط فيه الفكر لكي يشفى من الحاضر؟

المرجع:

1- Badiou Alain, Notre mal vient de plus loin, édition Fayard, Paris, 2016, p60.