23 ديسمبر، 2024 4:50 ص

تعرية السلطة التشريعيه في العراق

تعرية السلطة التشريعيه في العراق

قال الشاعر:

نعيب زماننا، والعيب فينا       ولو نطق الزمان إذا هجانا  

(النهاية في الكناية).

لا أحد يجهل ان الدولة تتكون من ثلاث سلطات هي التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتعتبر الأولى أعلى السلطات لأن سلطتها مستمدة من الشعب، وتتولى عدة مهام منها سن القوانين والتشريعات والأنظمة التي تنظم كافة الجوانب المتعلقة بالحياة السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية والدينية بما يحقق المصالح العليا للشعب، وتحد من الفساد الحكومي او تستأصله من جذوره بإعتبارها جهة رقابية على الإداء الحكومي، ومن حقها ان تسحب الثقة عن الحكومة في حال خروجها عن الدستور إو إنتهاك البعض من نصوصه. فهي تعمل وفق إطار الدستور والمصلحة العامة، وهذا تعريف مبسط للسلطة التشريعية.

وتأتي السلطة القضائية بالمرتبة الثانية بإعتبارها حامي الدستور والقوانين التي تصدرها السلطة التشريعية، والتحقق من الإلتزام التام بالحقوق الواجبات، وفرض العقوبات على أية جهة تنتهك القوانين الفاعلة التي نص عليها الدستور، وفي حال حصول نزاع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، تفصل السلطة القضائية في هذا النزاع لصالح أحد الجهتين. وتأتي السلطة التنفيذية بالمرتية الثالثة، ومن إسمها فهي مسؤولة عن تنفيذ القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية، علاوة على تحملها عبء تنمية البلاد وتحقيق الرفاه للشعب بكل شرائحه الإجتماعية.

لو القينا نظرة على إداء مجلس النواب خلال الدورات النيابية السابقة لأدركنا حجم البون الشائع ما بين مهمة النواب التي نص عليها الدستور وإدائهم على الواقع العملي، بل وصل الأمر الى التحايل على الدستور بشكل لا يمكن تصوره، وصار الدستور إضحوكة يتندر البعض بها، فالنواب يلتزموا به عندما يحقق لهم المكاسب والمزايا، ويتهربون منه في حال تعرض مصالحهم للخطر. وقد جرت مساومات مثيرة خلال الإستضافات التي قام بها مجلس النواب لرئيس مجلس الوزراء وكابينته الوزارية، فالمجلس لم يجرأ على إستضافة الوزراء ممن تقف ورائهم الأحزاب النافذة مثل وزيري الزارعة والتربية، وبعض الإستضافات كانت كوميدية الطابع كما جرى في إستضافة (عديلة حمود) وزيرة الصحة من حزب الدعوة الحاكم، وبعضها كان أشبه بجلسات المضايف العشائرية كما جرى في إستضافة وزير الخارجية المهووس إبراهيم الجعفري الذي إعتبره رئيس مجلس النواب سليم الجبوري (رمز وطني لا يمكن إستجوابه)، وعندما حضر للمجلس كضيف ترك الجبوري كرسيه ونزل ليسلم عليه بتكشيرة ملأت شدقيه الواسعين، مثل أرنب جائع عثر على مزرعة للجزر، وكانت الجلسة البرلمانية لا تختلف عن لقاء أصدقاء إجتمعوا حول طاولة للدردشة.

الأمر الأكثر إثارة هو إمتناع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي عن حضور جلسات الإستضافة في البرلمان، بل أنه أمر وزارئه بعدم الحضور الى أي جلسة لإستضافتهم من قبل البرلمان، فكان المالكي في حقيقة الأمر أعلى سلطة من رئيس البرلمان، وعندما وجه المالكي السلطة القضائية بمنع أياد علاوي من تولي رئاسة مجلس الوزراء الذي حاز على أعلى الأصوات ببدعة (الكتلة الأكبر بعد ظهور النتائج والتحالف بين عدة أحزاب)، صارت بيد المالكي السلطات الثلاث مجتمعه، اي الدكتاتورية بأبشع صورها، والطريف انهم كانوا يعيبون النظام السابق على دكتاتوريته!

وأخذ الشعب العراقي يتندر على رئيس البرلمان والنواب السنة وأطلق عليهم تسمية مثيرة (جحوش المالكي) أو (جحوش أهل السنة) بسبب ولائهم المطلق لنوري المالكي، وهذا الأمر ينطبق على رئيس الوقف السني عبد اللطيف الهميم وسلفه عبد الغفور السامرائي وشيوخ أهل السنة مثل خالد الملا ومهدي الصميدي. ينطبق عليهم قول الشاعر:

هو الكلب وابن الكلب والكلب جده     ولا خير في كلب تناسل من كلب

وطوال الدورات الإنتخابية السابقة كان البرلمان يقف مذعورا كالجرذ أمام رؤساء مجلس الوزراء ابتداءا من أياد علاوي وإنتهاءا بحيدر العبادي، ويمكن أعتبار رئاسة نوري المالكي فترة الرعب الأكبر للبرلمان الذي كان يخشى رئيسه ونوابه من المادة/4 ارهاب، التي يمكن أن يلصقها المالكي على أي نائب يقف أمامه أو ينتقده، بل أنه ـ اي المالكي ـ إنتعل البرلمان عندما هجمت قواته مدعومة بالطائرات السمتية على بيت النائب العراقي أحمد العلواني، وتم قتل عدد من أفراد عائلته وأسره قبل ان يرفع البرلمان الحصانة عن العلواني كما ينص الدستور، ودون وجود مذكرة القاء قبض صادرة من السلطة القضائية، ولم تجرأ السلطة التشريعية على مناقشة هذا الإنتهاك الدستوري في جلسة برلمانية خشية من المالكي، فمات البرلمان وقُرأ على روحه سورة الفاتحة.

ويبدو ان مسلسل المساومات والذعر داخل البرلمان إستمر طوال الدورة النيابية الحالية، فمعظم التشريعات المهمة تم تأجيلها الى البرلمان القادم، وجميع الإمتيازات الخاصة بالنواب تم التصديق عليها، لقد حقق النواب حلمهم الوردي، وسرقوا حلم الشعب العراقي في تحقيق أدنى متطلبات العيش الكريم، وكانت فرصة كبيره عندما هجم بعض عناصر التيار الصدري على البرلمان واحتلوه، فحضر النواب أنفسهم لمغادرة العراق الى بلدانهم الأصلية، لكن مقتدى الصدر الذي كان يتصرف كالبهلوان في السرك طمأنهم وأعادة عقرب الساعة الى الوراء، وكما يقول اشقاؤنا المصريون (كأنك يا بو زيد ما غزيت).

لذا لم يكن من المستبعد أن تنتعل ما يسمى بالمفوضية العليا المستقلة للإنتخابات قرار البرلمان الأخير عندما طالب بإلغاء إنتخابات الخارج والمهجرين، وإعادة فرز 10% من الأصوات، وخرج بعض رؤساء مجلس المفوضية يتهجمون على البرلمان ورئيسه، ويرفضون تنفيذ قراره، علما ان مجلس النواب هو الذي منح المفوضية الإستقلالية، وهي خاضعة له، ومرتبطة به فقط، لكنها بكل بساطة رفضت قراره واعتبرته غير ملزم لها! بمعنى انها لا تحترم إرادة الشعب، وأصرت على بقاء حالات التزوير، وصعود النواب الفاسدين الى باحة البرلمان. علما ان الوثائق واشرطة الفديو التي سربت للإعلام كشفت عن حالات تزوير تقشعر لها الأبدان.

المدهش في الأمر ان رئاسة الوزراء شكلت لجنة عليا للنظر في حالات التزوير تضم الأجهزة الأمنية التي قامت بدورها بتجربة تطبيقية للدخول على محطات الإنتخابات، وتلاعبت بنتائج الإنتخابات، من ثم أقرت بإمكانية التلاعب بالنتائج بسهولة، ورحبت المفوضية العليا بالجنة الحكومية وأكدت على التعاون معها، في حين رفضت اللجنة البرلمانية، مع انها مرتبطة بالأخيرة!

بعد الضغط الشعبي على المفوضية أقرت بحالات التزوير التي نفتها سابقا، وألغت نتائج اكثر من ألف محطة إنتخابية، ومازال الحبل على الجرار. ويبقى الأمر المهم هو أن تعترف المفوضية بالنسبة الصحيحة للمشاركين في الإنتخابات، فجميع المؤشرات تؤكد أن نسبة المشاركة لم تتجاوز 20% وليس مضاعفة كما أعلنت المفوضية. لقد قاطع غالبية الشعب العراقي الإنتخابات وسحب من الدورة الإنتخابية القاعدة الشرعية بأنها تمثل الشعب العراقي. إن مجلس النواب القادم لا يمثل على أعلى فرض سوى 20% من الشعب العراقي، لذا سوف لا ينهق أي نائب قادم بأن مجلس النواب يمثل الشعب العراقي كله. ولو سحبنا التصويت للجهات الأمنية (ما يقارب المليون عنصر) فإن نسبة المشاركة سوف لا تزيد عن 10% في كل الأحوال.

الحقيقة ان الدستور العراقي منع تسييس الجيش والأجهزة الأمنية، ولأن هذه الأجهزة في خدمة الشعب وليس الأحزاب الحاكمة، وفي خدمة الوطن وليس الحكومة، كان من المفروض ان يكون ولائها للوطن وليس للأحزاب السياسية، ويفترض ان تُحيد ولا يسمح لها بالمشاركة في الإنتخابات، فليس من المعقول ان تصوت القوات الأمنية لصالح رؤساء أجهزتها المنتمين الى حزب الدعوة ومنظمة  بدر الموالية لايران، وميليشيا عصائب أهل الحق وغيرها، في حين يفترض أن يكون ولائهم للوطن وليس لميليشيات ايران.

مهما حاولت المفوضية أن ترقع من حالات التزوير فأن الرقع أصغر من الشقوق، وقد بانت الحقيقة كاملة للجميع فقد تمت عملية سرقة أصوات العراقيين المشاركين وتوزيعها على الفاسدين، وشاركت أسماء فقط دون أشخاص في عملية التصويت داخل العراق وخارجة، ولم تقتصر سرقة الأصوات على الأحياء بل الأموات أيضا، حالة يمكن أن نطلق عليها (المصوتين الفضائيين) للأحياء، و(المصوتين المغفور لهم) للأموات.

صدق ابو نواس بقوله:

فَبِتْنَا يَرَانَا اللهُ شَرَّ عِصَابَةٍ   تُجَرِّرُ أَذْيَالَ الفُسُوقِ، وَلا فَخْرُ

ويبقى موقف مجلس النواب الأخير من المفوضية هو المحك الرئيس للتقييم، مع إنه في أرذل العمل، هل سيتمكن من إلغاء نتائج الإنتخابات ولو بصورة جزئية ويلمع صورته عند الشعب ولو لمرة واحدة فقط، أم ستسير الأمور كما عهدناها سابقا؟ إن غدا لناظره لقريب.