كنت قد قرّرت عدم الخوض في الأمور السّياسيّة والاجتماعيّة التي عادةً ما تكون محلّ خلاف، لاسيّما في مواقع التّواصل الاجتماعي، لإيماني بأنّ نصف العقل أن تُفَكِّر لوحدك، ونصفه الآخر أن تحفظه بعيداً عن أمزجة الآخرين، وأيضاً لإيماني بأنّه ربّما يأتي على الناس زمان إن أردتَ لهم أن يذهبوا يميناً، عليك أن تدعوهم للذّهاب شمالاً! وأنّه وسط الزّعيق لا أحد يستمع للصّوت المُغاير، لكن تصبح حياتنا جوفاء، بقدرِ ما نترك خلفنا من فراغاتٍ لم نملأها بالأجوبة المناسبة، ولن يتمُّ هذا بشكلٍ كبير، إلّا مع التغييرات الايجابيّة بالفعل.
فيما يتعلّق بموضوعة (تعديل قانون الأحوال الشّخصيّة)، كنت أتمنّى أن أجد بين الرّافضين له، من يُشخّص الأمور بشكلِ دقيق ويكون بمستوى من الوضوح ليقف عند النّقاط المهمّة والرّئيسة، لكنّي لم أجد ذلك، ويبدو أنّه من (المحذورات) أو (المحظورات) التي يخشى من يرفض تعديل القانون الخوض فيها أو حتّى التّقرُّب منها.
وقبل الحديث في تفاصيل الموضوع، لابدّ أن أُبيّن بأنّي ضدّ (تعديل قانون الأحوال الشّخصيّة) لأسبابٍ – قد أذكرها لاحقاً – هي غير أسباب أغلب الرّافضين، وفي نفس الآن، أدرك جيّداً، بأنّ ما سأكتبه، لن يُرضي أيّ من الطّرفين، سواء الدّاعمين للتّعديل أو الرّافضين له.
معلومات مهمّة وأساسيّة لابدّ من التّأكيد عليها، وأرجو التّركيز على أنّها معلومات وليست آراء:
أوّلاً: إنّ فكرة تعديل القانون ليست جديدة، بل بدأ الحديث عنها والعمل عليها منذ عام 2003 وما بعدها.
ثانياً: إنّ مسوّدة (تعديل قانون الأحوال الشّخصيّة) هي غير (قانون الأحوال الشّخصيّة الجعفريّ) أو (قانون المحكمة الجعفريّة)، الذي دعا إليه (الشّيخ محمّد اليعقوبيّ) قبل سنوات، ولعلّ اللّبس الذي حصل عند البعض، مَرَدّه أنّ النّائب (رائد المالكيّ) هو من أتباع اليعقوبيّ.
ثالثاً والأهمّ: إنّ المباني الفقهيّة والسّرديّات والمدوّنات الشّرعيّة – بشقّيها السُّنّيّ والشّيعيّ – تؤيّد ما جاء في مسوّدة تعديل قانون الأحوال الشّخصيّة، ولست هنا بصدد مناقشتها، لكن فقط أودّ بيان ذلك والتّأكيد عليه.
رابعاً: إنّ قانون الأحوال الشّخصيّة النّافذ الآن، قد أُجريت عليه التّعديلات لأكثرِ من مرّة.
خامساً: لم يَتَضَمّن التّعديل المُقتَرَح أيّةِ تفاصيلٍ عن موضوعة (زواج القاصرات) لا من قريبٍ ولا من بعيد.
سادساً: إنّ موضوعة (السّنوات التّسع) المثبّتة في الكتب الفقهيّة، تتحدّث عن سنّ التّكليف وليس عن الزّواج.
سابعاً: إنّ الدّستور العراقيّ الحالي، لا يتعارض مع مُقترح التّعديل.
ثامناً: إنّ ما جاء في مسوّدة التّعديل، جاء بنحو الاختيار وليس الجَبر، حتّى على الفرد الشّيعيّ نفسه.
وعليه:
1- كان الأحجى أن يتمّ توجيه اللّوم والسّخط والغضب والاستنكار، إلى المرجعيّات الدّينيّة (الشّيعيّة والسُّنّيّة) باعتبارها المَعنيّة بالأمر والمسؤول المُباشر عنه وصاحبة القول الفصل فيه، فأعضاء البرلمان الذين قَدّموا مقترح التّعديل يستندون بذلك إلى ما جاء في منظومتهم التّشريعيّة وكتب ورسائل علمائهم.
2- من غير المفهوم أن حَملات الاستنكار والتّسقيط تَرَكّزت ضدّ أعضاء مجلس النوّاب من الشّيعة فقط، بينما أنّ غيرهم من السُّنّة والكرد هم أيضاً صوّتوا لصالح مقترح التّعديل، بل يكون غيرهم أولى بالعَتب، خصوصاً وأنّ هناك من صوّت لمقترح التّعديل من السُّنّة بعد الحديث عن (صفقة) مفادها تمرير (تعديل قانون الأحوال الشّخصيّة) مقابل تمرير (قانون العفو العامّ).
لماذا ضدّ تعديل قانون الأحوال الشّخصيّة:
أوّلاً: كان بالإمكان طرح الموضوع بشكلٍ آخر، ودراسته مجتمعيّاً بشكلٍ مستفيض، ومناقشة جميع المشكلات والثّغرات الموجودة لتطمين الجميع، وحتّى لا يتحوّل إلى سجالٍ إعلاميّ وتنابز يؤدّي إلى هذا الانقسام المجتمعيّ.
ثانياً: كان الأفضل أن يتمُّ الحديث عن تعديل بعض الفقرات غير الجيّدة في قانون الأحوال الشّخصيّة النّافذ، كموضوعة الحضانة وتصديق حالات الزّواج خارج المحكمة.
ثالثاً: إنّ الوقت غير مناسب لطرح الموضوع بهذه الكيفيّة، لاسيّما وأن الرّاهن العراقيّ يشهد الكثير من الاضطرابات.
قراءة وتحليل:
لقد تحوّل الموضوع إلى صراعٍ ومهاتراتٍ في الفضائيّات وفي شتّى مواقع التّواصل الاجتماعيّ، وهذا ما سهّل عمليّة الإساءة لموقف الطّرفين المؤيّدين للتّعديل والرّافضين له، من خلال تصدّر بعض الشّخصيات غير المناسبة للمشهد.
السّؤال الأهمّ الذي ينبغي أن يكون حاضراً عند الجميع هو:
هل يُعقل أنّ كُلّ المؤيّدين لتعديل قانون الأحوال الشّخصيّة هم أصحاب نوايا سيّئة وغايات دنيئة يهدفون إلى تفكيك العائلة العراقيّة والإساءة إلى المرأة؟
وبالعكس، بمعنى هل يُمكن أن يكون جميع من رَفَض التّعديل هو سيء وضدّ الدّين وتابع إلى أجنداتٍ خارجيّة وووو
الجواب قَطعاً لا، وكُلّنا يُجزم بذلك، لكن الأعمّ الأغلب فَضّل الابتعاد عن الهدوء والنّقاش المُثمر والحوار البنّاء واللّجوء إلى لغة التّخوين والطّعن والإساءة وتصدير الأمر على أنه معركة، أسبابها إيديولوجيّة ومذهبيّة وانقسام في الولاءات.
الطّرف المؤيّد للتّعديل:
بعيداً عن كونهم الغالبيّة العُظمى من المكوّن الشّيعيّ، إلّا أنّهم يستندون في موقفهم بالدّرجة الأساس على الثوابت الفقهيّة والشّرعيّة التي يعتقدون بها والمُثبّتة في كتبهم ومدوّناتهم الفقهيّة والمدعومة من قبل جميع مراجعهم الدّينيّة، وهذا ما لا يُمكن التّنكُّر له، وهو ما ينبغي الوقوف عنده من قبل الطّرف الآخر.
بالتّالي، هم ينطلقون من مبدأ التزامهم بالشّريعة وتطبيقاتها، وبعبارةٍ أخرى هم يقومون بما ينسجهم مع ثوابتهم الدّينيّة. وهذا ما تَمّ تجاهله من قبل الطّرف الآخر، بل مورست ضدّه الكثير من أساليب التّسخيف والسُّخرية.
الطّرف المُعارض للتّعديل:
ينطلقون في معارضتهم من حرصهم وخوفهم على حقوق المرأة وصيانتها، والخوف من الإضرار بالعائلة العراقيّة، وأيضاً ثَمّة تخوّف – عندهم – من هيمنة الفاعل الدّينيّ وأدواته على الحياة الشّخصيّة.
مفارقة:
والمفارقة هنا أنّ كلا الطّرفين لديهم ذات الأهداف والغايات وهي جيّدة ومحمودة، لكن لم يُفكّر بهذا أيٍّ منهما، بل ذهب كُلّ فريقٍ إلى تخوين الفريق الآخر جملةً وتفصيلاً!!
والمُفارقة المُضحكة المُبكية – في نفس الآن – أنّ كُلّ فريقٍ أخذ بكيل ذات التّهم القاسية إلى الطّرف الآخر!
تصدير التّفاهة والعُنف اللّفظيّ:
والخطأ الفظيع الذي كان على الطّرفين عدم الوقع في شِراكه، هو السّماح لبعض السَّوَقة والانتهازيين ومشاهير السّهو وقَنّاصي (الطّشّه) أن يكونوا في موقع الصّدارة من المشهد، ليتمّ التّعاطي معهم، بوصفهم الواجهة الإعلاميّة لكلّ فريق. وهذا ما أضعف موقف كُلّ منهما، بل وأسهم في تجيير – واستغلال – الموضوع وتحويله إلى حلبة للصّراع الإيديولوجيّ والسّياسيّ/ الحزبيّ، فصار الخلاف (دينيّ، إطاريّ)/ (عَلمانيّ، ورافض للإطار ومنهجه)، وهكذا تَمّ الابتعاد عن أصل الموضوع لينتهي الحال بالجميع إلى تبادل الشّتائم والبذاءة والاتّهام بعدم الوطنيّة والطّعن بالشّرف!
ماذا لو؟
هنا أورد بعض الأسئلة الاستنكاريّة للطّرفين، وكان على الجميع التّفكير بها قبل إلى ينتهي بنا الحال إلى هذه الحالة المُزرية من التّشظّي والتّوحّش والانقسام:
أوّلاً: ماذا لو كانت مسوّدة تعديل قانون الأحوال الشّخصيّة كانت قد صَدَرَت من المرجعيّات الدّينيّة الكُبرى – الشّيعيّة والسُّنيّة – بشكلٍ واضح وصريح، مثل مرجعيّة السّيستانيّ؟ فهل ستُقابل بذات الهجمة؟
ثانياً: ماذا لو صَدَرَت المسوّدة من قبل الطّرف الرّافض لها الآن، هل سيتمّ القبول بها سواداً على بياض من قبل الطّرف المؤيِّد لها الآن؟
ثالثاً: ماذا لو صَدَرَت مسوّدة التّعديل من ذات الجهة، إلّا أنّها تأتي بسياقٍ موازٍ للقانون الحالي النّافذ، بل وتُزيد عليه لصالح المرأة في بعض التّفاصيل مثل موضوعة الحضانة والنّفقة والميراث وغيرها، فهل سيتمُّ قبولها من قبل الطّرف الرّافض لها الآن؟
طريق الحَلّ الذي لم يسلكه الجميع:
إنّ معالجة الموضوع ليست بالأمر العسير، بل هي يسيرة جدّاً، وكان بالإمكان أن يتمّ عقد جلسات نقاشيّة حواريّة، تضمّ نخبة من فقهاء القانون والمحكمة الاتّحاديّة ونقيب المحاميين واللّجنة القانونيّة في البرلمان وبإشراف وحضور من ينوب عن المرجعيّات الدّينيّة (السُّنيّة والشّيعيّة) أيّ مرجعيّة النّجف والوقف السُّنّيّ، لمعالجة الموضوع بأسلوبٍ فقهيّ/ قانونيّ سليم، بعيداً عن هذه المهاترات والسّجالات العقيمة.
خلاصة الموضوع:
أوّلاً: سَيَمرُّ تعديل قانون الأحوال الشّخصيّة، وسيتمُّ التّصويت عليه في البرلمان، لأسبابٍ كثيرة، من أهمّها، أنّه لا يتقاطع مع ما موجود في المدوّنات الشّرعيّة/ الفقهيّة، بل ولا يستطيع أيٍّ من مراجع الدّين رفضه.
وأيضاً لأنّه تحوّل إلى موضوع حربٍ وغَلَبة وكسر إرادات، بين فريق يرى في نفسه أنّه يدافع عن دينه وشريعته، وفريق يقفُ بالضّد تماماً، ويرى في الخصم أنّه ضدّ الدّين والشّريعة!
ثانياً: جولة أخرى نخسرها، لعدم تغليب صوت المحبّة والتّسامح والحوار الهادف، وهذا ما يؤكّد أنّنا ما زلنا نخوض في الهامش..