على مدى التأريخ البشري حيث عاش الانسان من عصر التقاط الثمار والصيد الى عصرالرعي ثم عصر الزراعة والاستيطان بمجموعات صغيرة الى عصرالقرى والمدن ثم دويلات المدن ثم عصرنشوء الدولة ثم عصرنشوء الامبراطوريات وعصر الاستعمار وعصر النهضة والثورة الصناعية وثورة التكنلوجيا ثم ثورة المعلومات والاتصالات ودخول العالم الى مرحلة العولمة وما يسمى بالقرية الواحدة الذي نعيش فيه حيث حلت وسائل التواصل الشخصية محل وسائل الاتصال والتواصل العامة ,فأنت تجلس في بيتك اليوم وتتحدث مع أي شخص في العالم صورة وصوت بأستخدام حاسوبك الشخصي او موبايلك وغيرها من الاجهزة وباستخدام برامج أغلبها اصبحت مجانية كالفايبر والواتساب والماسنجر وغيرها. كيف يمكننا أن ندرس تطور السلوك البشري بالتوازي مع تطور وسائل الاعلام والاتصال والتواصل .
1-في المرحلة الاولى كان الانسان يعيش منعزلا قبل اكثر من عشرة آلاف سنة (وربما اكثر بكثير) في مجموعات صغيرة عائلية او عشائرية غالبا بدوية وكانت علاقاته محدودة مع المحيط والطبيعة مع الحر والبرد مع المطر او الرياح ومع الحيوانات المفترسة والاليفة وكانت حياته قائمة على الخوف من ظروف الطبيعة متوجسا من كوارث الطبيعة كالفيضانات والعواصف او من هجمات الحيوانات المفترسة او المجموعات البشرية الاخرى ,كان الانسان يحاول التواصل مع محيطه ليتجنب شرور المحيط.
2-ثم تطورت البشرية لتتحول المجموعات البشرية الى قبائل وبدأت تشكل القرى وهنا بدأت العلاقات البشرية تتعقد وبدأ الواقع يفرض ظهور الزعامات الصغيرة وبدأ التنافس بين البشر يأخذ حيزا أكبر من المخاوف من الطبيعة والمحيط ,بدأ الانسان يحتاج الى تطوير سلوكه لأن عدد الاشخاص الذين يضطر للاحتكاك بهم بدأ يزداد وعليه أن يبني معهم علاقات مسالمة ليعيش بسلام وهدوء وأمن .بدأت الظروف الجديدة تفرض تطور اللغة كوسيلة تواصل واقناع وتنافس واحتيال ,لاتزال وسائل التواصل هنا قائمة على الاتصال المباشر,لم تظهر الكتابة لحد الان .قد تكون ظهرت الرموز والصور والمنحوتات كوسائل تعبير وتواصل للانسان مع الاخرين والالهة والطبيعة.
3-في عصر القرى و دويلات المدن كانت المجتمعات بحاجة لزعامات اكبر كزعماء قبائل او قرى او مدن او حكام لدويلات المدن وقد تكون الزعامة فرضت بالقوة او بالاتفاق على اساس الاختيار بسبب السن او المال او الحكمة .هنا وسائل التواصل تطورت حيث بداية ظهور الكتابة الرمزية (او المسمارية) ويتم التواصل بواسطة الرسائل الشفوية او المكتوبة او الرمزية .طبعا هنا ظهرت الاعراف او القوانين المجتمعية المدونة او غير المدونة لتنظيم علاقات الافراد .لا اعتقد ان الرسائل المنقولة بواسطة الطيور قد ظهرت لحد الان لكن يمكن ان تكون بعض وسائل الاتصال قد استخدمت بواسطة صوت بعض الآلات العالي او اشارات الدخان للتنبيه او التحذير او الحزن او الفرح او طلب التجمع او العون كما نراها في الافلام التي تتناول قصص الهنود الحمر .
4- في عصر الدولة التي وحدت دويلات المدن ,تطورت اللغة واصبحت كوسيلة تخاطب واقناع ومفاوضات وخطابة وحكايات وتأريخ وسياسة وقيادة وتجارة واصبح على بعض الناس تعلم اكثر من لغة كالتجار ,اصبحت الرسائل الشفوية و المكتوبة بين قادة الدول بواسطة الرسل والسفراء امراً لازماً كما ظهرت الرموز كالاعلام او الرايات والمجسمات والرموز والرسوم الحيوانية كالاسد والنمر والنسر والصقر كرموز للدول والمجتمعات , كما استخدمت الاختام والحلقات والقلائد والخواتم والسلاسل والملابس وبأشكال والوان معينة كوسائل تواصل بين الدول والتجمعات البشرية يمكن ان يكون حدث هنا تدجين الحمام الزاجل كوسيلة اتصال سريعة لمسافات بعيدة.
5- في العصور التالية بدأ التطور يتتابع و بشكل مضطرد من خلال الاكتشافات والاختراعات العلمية والصناعية فبدأت الكتابة والنسخ والكتب والرسوم والمنحوتات والصور تنتشر كوسائل للتواصل ونقل المعلومات بين الناس .وتطورت وسائل المواصلات وسهلت الاتصال والتواصل بين المجتمعات المختلفة .كما سهلت وسائل المواصلات تبادل البريد بسرعة اكبر .النقلة الحقيقية في وسائل الاتصال حدثت بأختراع الطباعة اولا ثم التلكس ثم التليفون بالاضافة الى اختراع الماكنة البخارية كالقطار ثم السيارة ثم الطائرة.كانت وسائل الاتصال عامة كالتليفون والتلكس والبريد .حدثت النقلة النوعية حديثا بتحولها الى وسائل شخصية فالموبايل هو وسيلة اتصال شخصية ثم انتقل الموبايل الى السمارت فون او الهواتف الذكية التي وفرت برامج التواصل الاجتماعي كالفيس بوك والتويتر والفايبر والواتس آب وغيرها .واصبح لايكاد يمر يوم اذا لم نسمع بتطور جديد واضافة الى الهاتف الذكي وبرامج التواصل الاجتماعي في سباق يشوبه التنافس العلمي والتجاري والامني والاستخباري والغرور والتباهي .يصاحب ذلك تطور في وسائل الاعلام و نقل المعلومات والاخبار كالراديو ثم التلفزيون ثم الفضائيات والانترنت ليصبح لكل دولة اومدينة اوعشيرة او حزب او دجال او عشاب اومؤسسة او جامعة او رجل أعمال قناة فضائية خاصة بهم وقد نصل الى أن تكون لكل عائلة قناة.
6- مايهمنا هو التطور في السلوك الانساني واللغة المستعملة في العلاقات الانسانية وهل كان للتطور في وسائل الاتصال والتواصل والقنوات الفضائية تاثير على تطور او تردي اللغة واللهجات والكلمات المستعملة والسلوك والعلاقات الانسانية.
7- خلال وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ انتشار وسائل الاعلام بشكل سريع كما ان الانفتاح الاعلامي والتطور الذي تحقق بسبب الحرب واستخدام وسائل الاعلام كاداة مهمة في الحرب النفسية بين القوى المتحاربة وخصوصا بعدما ابتدأت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي من جهة والمعسكر الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الامريكية من الجهة الاخرى اصبح تأثير وسائل الاعلام على الاحداث وتفكير الناس كبيرا مع ماعرف عن امريكا من امكانيات اعلامية هائلة وتقنيات حديثة وصناعة سينمائية في هوليوود وصحافة وتلفزيون بقنوات كثيرة وتنافس اعلامي محموم. كما ان نتيجة ذلك التنافس ادى الى سباق في الصناعات الفضائية واستخدام الاقمار الصناعية في الاتصالات والبث التلفزيوني والاعلامي ونقل المعلومات حيث اصبح الخبر يصل الى جميع سكان الارض في دقائق وما لذلك من تأثير على توجيه ردود فعل الناس على اي حدث .لو القينا نظرة على الاساليب والسلوكيات واللغة المستعملة في تلك الفترة في وسائل الاعلام من قبل المقدمين والاعلاميين والممثلين فسنرى انها كانت تتسم بالرقي والاحترام وكان الاستثناء قليلا. كان الرقي والاحترام سائدا في كل شيء في الملابس الانيقة والسلوك والتعامل .الان الامر مختلف يمكنك ان تشاهد معركة بالايدي وبكلمات السباب والفشار في برنامج حواري على فضائية ويجلس المقدم بينهم يستفز كل منهم ليزيد ضراوة القتال والسباب .كانت كلمات الاغاني مختارة بعناية والالحان مختارة بعناية و باصوات راقية كصوت ام كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وفريد ,وكان تفاعل الناس اجمل بدون بذاءة وبالتصفيق احيانا او بكلمات الله الله التي تعبر عن الاعجاب اما الآن فيبدو لك كأن جميع الاغاني كتبها نفس الكاتب ولحنها نفس الملحن وغناها نفس المغني ,عياط في عياط ,فلا نعرف من المطرب ومن الجمهور, فالكل يصفق والكل يغني ويرقص ,الجمهور والمطرب,الكلمات المستخدمة سوقية ,الاغنية مليئة بكلمات السباب والعياط والتهديد وكأننا في معركة بين عدوين وليس حبيبين.
8- اليوم ,الناس في الشوارع هائمة ,تسير وبأيديها هذا المدعو بالموبايل يتكتكون على واجهته ويستغرقون فيما يشاهدونه فيه وليس غيره صديق ورفيق في الفراش ,على مائدة الطعام ,في الطريق, في السيارة ,البعض يقع في الحفر بسببه , واخرون يصطدمون بالاعمدة بسببه وسائقو سيارات يسببون حوادث بسببه ومشاة يدهسون بسببه حتى اعتبر الموبايل من اهم اسباب حوادث السيارات والطرق .جهاز عجيب استحوذ على حياة الناس ولم يعد غيره يشغلهم .ترددات وموجات هذه الاجهزة والنت والفضائيات تؤثر على الصحة الجسدية والنفسية للناس وعلى سلامتهم وامنهم فهم مصدوعون ,فاقدو التركيز.مخترقون, واينما ذهبت في دول العالم سترى نفس المشكلة.
9- الفضائيات تلاحقك بأخبارها المستفزة في البيت في العمل في المقهى ,اخبارها المليئة بالتلفيق والسرعة كأنها موجهة لأثارة اعصابك , ولتنقل لك رأي مراسليها في الاحداث وليس مايحدث فعلا على ارض الواقع .تعرض عليك اخرصيحات الازياء وقصات الشعر وصبغات الوجوه والتاتو من خلال مقدمي ومقدمات برامجها وتدير رأسك بأعلانات عن منتجات استهلاكية تستنزف جيوبك .تتزاحم برامج المسابقات وبرامج اختيار الاصوات والمواهب وصنع النجوم , برامج الهدف منها استنزاف اعصابك وجيوبك ووقتك ولتتحول الى انسان شبه آلي لا تعرف سوى مايراد لك ان تعرف .
10- للفضائيات والافلام والمسلسلات وبرامج التواصل تأثير على تغير سلوكيات الناس واللهجات والكلمات والازياء وقصات الشعر والطعام وانتشار صيحات معينة نتيجة ذلك في اساليب الحياة من مناسبات كالاعراس وحفلات التخرج والمنازعات والمصالحات وغيرها , بسبب الموبايلات وبسبب الفضائيات وبسبب برامج التواصل الاجتماعي فقد الناس علاقاتهم الاجتماعية وفقدوا هدوءهم وفقدوا مافي جيوبهم وفقدوا امنهم الاجتماعي والنفسي .اذا استطعنا ايقافها هل نسترجع حياتنا وهدوءنا النفسي وعلاقتنا الاجتماعية الحقيقية بدل حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية الديجيتال الحالية.
ملاحظة : ماورد من تسلسل لتطور التاريخ البشري والاحداث هو مجرد استعراض قد لايكون دقيقا من الناحية التأريخية وكان القصد منه اعطاء فكرة فقط وليس لأغراض التوثيق التاريخي .