18 ديسمبر، 2024 6:20 م

تطلعات المرأة بين مطالب العصر و( فخاخ ) التحضر الزائف

تطلعات المرأة بين مطالب العصر و( فخاخ ) التحضر الزائف

يحتفل العالم سنوياً بعيد المرأة العالمي بخطابات حماسية تؤكد على الأهمية الملفتة للمرأة ودورها في الحياة لما تقوم به من أداور عظيمة وعلى جميع الأصعدة والمجالات بدءً من الأسرة وحتى آخر ما يمكن أن نتوقعه من مجالات وميادين أخرى يرافقها كم من المعاناة والتحديات. فكم تحقق للمرأة من تطلعات وآمال؟ وكم منها كان في حقيقته مبعث خيبة.
المرأة المعاصرة اليوم تعيش حقبة زمنية تفرض عليها أن تواكب التغيرات والتطورات في كل مفاصل الحياة أتاحت لها أن تمارس أدواراً عدة ومختلفة لم تكن لتحوز عليها أو تتاح لها من قبل. وتأتي تطلعات المرآة من دوافع شخصية، وأخرى اجتماعية أحياناً ذاتية وأخرى مفروضة، فانخرطت بشكل واسع في التعليم وشتى المهن. ومع تغير وتطور الحياة عموماً لما يستجد من متطلبات خضع لها الناس جميعاً بإرادتهم أو مساقين ليسايروها قد لا تتناسب مع معتقداتهم وامكاناتهم، وثقافاتهم عموماً، وصارت المرأة جزءً لا يتجزأ من هذا المعترك. ونتيجة لذلك، إلى حدٍ ما تغيرت وتطورت معالم شخصية المرأة المعاصرة عن ذي قبل. المرأة اليوم لا سيما المثقفة والواعية هي مفكرة، وناهضة، وفاعلة، وقوية، وتتطلع إلى المزيد مما يمكنها من تبوء مكانات مهمة بقدر ما تمتلك من قدرات وهبات، ولتبدع في أي مجال كلما أتيحت لها الفرص. لكن، وكفرد من أفراد المجتمع الذي يخضع للمتغيرات والتحديات، واجهت وما زالت تواجه العديد مما تراه معوقات وصعوبات لتحقق الأكثر من الأهداف التي تختطها، وهذا ليس في بلداننا حديثة العهد بالاهتمام بالمرأة على وفق النظرة الغربية الغريبة، بل حتى في البلاد الرائدة التي خاضت في هذا الموضوع بأكثر مما كانت نفسها تتوقع وتأمل.
محوران مهمان يثيران المسألة. الأول يتعلق بدقة وحقيقة ما يخاض فيه عن دور المرأة وما لها وما عليها؟ والثاني في الكيفية التي تعاطى بها العالم مع حقوق المرأة، وحدود أدوارها مع أن هذه الحدود كثيراً ما تحاط بالضبابية.
لو عدنا إلى أصل المناسبة التي أصبحت يوماً عالمياً للاحتفال والاشادة بالمرأة أنها كانت بسبب واقعة أليمة لعدد من النسوة العاملات قد ذهبن ضحية حادث حريق في مصنع قبل أكثر من مئة عام كن قد عوملن باستهانة، وغبنت حقوقهم في العمل أسوة بزملائهن من العاملين. انتفض الناس وكان الأمر يستحق، وما لبثت أن توالت حملات لاحقة للمطالبة بحقوق المرأة في كل المجالات. ومن بعد مطالبات عديدة ومواجهات منها ما كان عنيفاً مع مناهضين لحقوق المرأة، عُدلت الدساتير لتصبح المرأة شريكة للرجل في الكثير، وقد ساعدت الدارسات والبحوث في مجال علم النفس والطب والاقتصاد… على تأكيد أهمية منح النساء عموماً حقوقهن، ومراعاة الفروق الفردية بينهن كالتي بين البشر عموماً ليأخذ كل ذي حق حقه بتكافؤ الفرص في ميادين العمل وغيرها، وفسح المجال على مصراعيه ليثبت كل جدارته فيها، ويحصل كل على ما يستحق، المرأة والرجل على حد سواء. ولكن، ما أسرع ما تطورت مجريات الأمور لتأخذ أشكالاً أخرى تنحرف بقضايا المرأة فيما يتعلق بحقوقها وحدودها وأداورها… تُرى هل ما أرادته المرأة هو المساواة أم العدالة؟ وكم من الحقوق كانت هي أهل لها؟ ومَن المؤهل ليحكم بذلك؟ وما هي المعايير؟ وماذا حدث بعد أن تجاوزت الحقوق إلى اللا حدود؟ هل تعيش النساء اليوم حقبة زمنية ذهبية في نيلها لحريتها وحقوقها؟ وكثير من الأسئلة المطروحة بعد أن أخذت مؤشرات الابتعاد عن المطالب الحقيقة والمغزى منها كفكرة حضارية لتتلاءم مع روح العصر، فبعد أن نالت المرأة الكثير من الحقوق لا سيما في البلدان التي نادت بها كمطالب لإنقاذها من براثن التخلف، وظلمات الجهل، وتعسف المتطرفين والجهلاء، والارتقاء بها كإنسان يواكب تطورات العصر الحديث، أخذ العالم يتكيف مع الوضع الجديد لما يسمى بالمساواة حيث المكانة المعتبرة للمرأة إلى جنب الرجل في نفس ميادين العمل، والمرأة تحاور وتناقش وتتخذ القرار… كان تحولاً كبيراً في النظرة إلى طبيعة هذا الكائن، وإمكانية استثمارها عنصراً فاعلاً في الحياة. لكن العالم مليء بمن يستحين الفرص ليعكر جوهر الفكرة، ويحرف المفهوم الصحيح للمساواة إلى غير المقصود، ومحاولة العبث بما يتلاءم مع الأهداف المنحرفة بعيداً عن المقاصد الحقة.
واقعاً في مجتمعات تحكمها المعايير الذكورية في كل العالم بلا استثناء بدرجة وبأخرى، لا يُسمح للمرأة لا سيما الذكية وذات الكفاءة أن تأخذ فرصتها مثلاً في مجالات العمل، فضلاً عن حدود المنزل والأسرة، وعلى العكس من ذلك تُستبعد كلما أمكن، والمشكلة برأينا تكمن في سببين أساسيين:
1-إن في ميدان العمل الذكوري من غير المقبول أن تكون المرأة ذكية ومنتجة ومبدعة بنفس القدر الذي عند الرجل، ذلك يشكل منقصة وتقليل من شأنه ما دامت الفكرة السائدة أن الرجل دائماً وفي كل ميدان أحق وأفضل وأقدر، إن غضضنا النظر عن الفرق في مفهوم الذكر والرجل. وبالتالي ستواجه في مثل هذا الميدان الكثير من الضغوط والمضايقات وسوء المعاملة لتنتهي إما بالانسحاب، أو القبول بالشروط التي تحدد فعالياتها، ونشاطها كإنسانة نافعة أكثر من غيرها، وربما تخضع لخيارات أخرى مما يفقدها كرامتها واحترامها لذاتها. وجدير بالذكر وبحسب دراسات ركزت على البلدان المتقدمة في الغرب على وجه الخصوص أن أكثر المناصب القيادية في كل العالم يشغلها الذكور بالنسبة الأكبر، كما وتظهر هيمنة للذكور في مهن معينة كالطب والهندسة والاقتصاد والإعلام، أما النسبة الأكبر للميادين التي تشغلها الإناث كنادلات وموظفات استقبال.. وفي ذلك مؤشرات عديدة خطيرة ومثيرة عن الكيفية التي يتعامل بها الغرب مع المرأة، وكم من الحقوق حصلت عليها مع مفارقة أنها البلاد الرائدة في المناداة بحقوق المرأة في عصرنا.
2-أن المرأة ذاتها قد تكون مفتقرة للوعي بذاتها، وبهويتها، وبأدوارها الحقيقية المناسبة لها والتي عليها أن تهتم بها أكثر من غيرها مما يطرح لها من خيارات وفرص وهمية تكون أحياناً بمثابة فخاخ تهوي بها في ظلمات وضلالات تبعدها عن حقيقتها وأهدافها التي رسمتها لتحقق ذاتها. لقد أخذت العديد من المؤسسات والمنظمات ذات الأهداف المنحرفة المشبوهة تراقب وتتابع عن كثب ما ستؤول إليه الأمور. فلما كانت البداية سليمة، صار لا بد من الاستفادة منها والذهاب إلى أكثر. أخذت الدعوات باتجاهات أثرت وإلى حد كبير في توجهات المرأة، ومن بعد في تغير المجتمعات بأكملها في إثر ذلك، بعد أن طرأت مشكلات تتعلق بواقع أداء المرأة بأدوارها الأسرية تجاه الزوج والطفل.. وما لكل ذلك من أبعاد مهمة وخطيرة. فبعد أن كانت المطالب الأساسية حقوق المرأة كما تبدو في العدالة بمنحها ما تستحق، والمساواة بشمولها بمبدأ تكافؤ الفرص، والحرية في أن تمتلك زمام أمورها بحكمة، وهي مطالب عادلة في ظل ما عانته من تهميش وظلم في ثقافات معينة، أخذت المطالب تأخذ منحى آخر كان أقل ما يقال فيه أنه ينحدر بالمرأة إلى مستويات ما كانت حتى في العصور المظلمة.
الزائفون من دعاة تحرر المرأة من العبودية تحت مسميات رنانة وبراقة، ساقوا المجتمعات عموماً، والمرأة بشكل خاص إلى منحدرات التفكير السطحي بقضاياها ومطالبها وحاجاتها، فمن العدالة كمطلب إنساني مشروع، إلى مطالب زائفة أوجدتها مؤسسات الرقيق والنخاسة العصرية باسم التحرر تظهر في ممارسات تحت عناوين ومسميات زائفة تخفي وراءها ما تخفي من الفساد والانحلال. على سبيل المثال الغواية لممارسة ما تسمى خطاً بالفنون ( رقص وعري، ورذيلة….)، ومحاولات الإظهار وزيغ الأبصار التي يجتهد فيها تجار السلع الاستهلاكية، كالتي تقدمها دور الأزياء العالمية ذات الأهداف المنحرفة في ترويجها لمنتوجات وسلع جنونية وتافهة لا نفع فيها، والإغواء بعمليات التجميل، وحتى بعمليات التحول الجنسي كنوع من التمرد، وتعبيراً عن التحرر من القيود التي تحول دون تحقيقها للأدوار التي أُوهمت بها، أو عندما تعامل باستهانة وقلة تقدير وبالتالي لتنحو بهذا الاتجاه.. كل ذلك الغرض منه نزع ثوب العفة وحرف اهتمامات المرأة الأصيلة المشروعة إلى الانحلال، وبدلاً من أن تكون عقلاً محصناً علمياً وفكرياً، ودينياً، صارت تميل وبلا وعي مسؤول لإن تكون سلعة رخيصة مثيرة للغرائز، تقيِّم مكانتها وتقبل الآخر لها بقدر اهتمامها بمظهرها الهجين، وابتعادها عن قيم ومعايير المجتمع الرصينة على أنها مسايرة للتطور الحضاري، ومتطلبات العصر. ناهيك عن الوعود الكاذبة بالحرية ورفاهية الحياة كالتي تعد بها وتتولاها وكالات عالمية ظاهرها إنساني، وباطنها الفساد تدعي توفير فرص العمل خارج حدود البلدان المنكوبة بكوارث الطبيعة والحروب،… بيع وشراء على قدم وساق، وتروج لها وكالات اعلام عالمية تحت رعاية تلك المنظمات المشبوهة. وما حصل أنه بقدر ما نالت المرأة من حقوق، فقد ذهبت بعيداً لغاية أن الكثير منهن صرن يشعرن بتشوه الهوية كامرأة. تغيرت ملامح الهوية لتصير أقرب للملامح الذكورية والعكس صحيح أيضا. ولهذه النتيجة المؤسفة التي وصلت إليها الكثير من النساء المتوهمات حيث فقدان الحرمة، والكرامة، والتقدير، والكثير مما نالته الجدات في عصور التخلف ولم ينلنه فيما يسمى كذباً وزوراً بعصر التحرر حيث زيفت الفكرة، وانحرفت الدعوات، فبات ليس إلا عصر الانحلال والتحرر من العقول. اليوم باتت المطالب بالعودة لما فقد من تلك القيم بعد هذه الرحلة الطويلة المتعبة، والمكلفة جداً للبشرية جمعاء.
لا يمكن التغاضي عن حقيقة جلية أن الأدوار المهمة لا تشغلها النساء، فأكثر الحديث يدور عمن تخلين عن آمالهن وحقوقهن، وخلعن أثواب الحياء، وسعين وراء الشهرة بأي ثمن وعلى حساب الفطرة السليمة. وكإنسان حر بالمفهوم الحقيقي صار من الصعب على المرأة السيطرة على المتغيرات الضاغطة للإطاحة بكيانها، والتحقير من شأنها أماً وعاملة، وعالمة، ومفكرة،….تغيرت الفكرة إلى النقيض بتلاعب تجار البشر من النساء والرجال على حد سواء، فبدلاً من دورها كزوجة صالحة، وأم ومربية فاضلة، وعالمة ومفكرة،.. صارت تبحث عن مهرب من هذه الأدوار الجميلة إلى سراب وأوهام يصنعها المغررون، بدعوات مشكوك في نزاهتها وتحت عنوان (تحرري)، وبعد أن كانت تنشد مكانتها الاجتماعية بطلب العلم والعمل والإبداع والإنتاج أسوة بالرجل فتساهم في تقدم البشرية وتصنع الحياة للأجيال، صارت مستهلكة، تلهث وراء أقل الأشياء قيمة وفائدة تُصور لها أنها حاجات ومطالب مهمة لا بد للمرأة اقتناؤها والسعي للحصول عليها لتكون امرأة بحق. وبعد كل ذلك، فهل نالت المرأة حقوقها، أم باتت مغبونة أكثر من ذي قبل؟! وما الذي أضاف إليها حقاً لتضيفه بدورها إلى المجتمع وهي تمثل في الحقيقة أكثر من نصف المجتمع؟! .
إن أكثر البلدان تحرراً تقع نساؤها ضحايا السعي وراء الحرية الزائفة، فنسب التعرض للاغتصاب والاعتداءات مخيفة وأعدادها مهولة، وارتكاب الجرائم والاعتداءات العنيفة من بين النساء تمثل صدمة للعالم بدوافع الدفاع عن النفس، أو استرداد الحقوق المسلوبة وغيرها، ناهيك عن تعاطي المخدرات والدعارة، وازدياد نسب الأمية من بين الفتيات والنساء مؤشر كبير على فقدان المرأة لمكانتها وحقوقها، وجهلها إلى أي مصير يراد بها برغم كل دعوات تحرير المرأة وحقوق الإنسان التي تضج بها المحافل، والحقيقة هناك من كن أول من ظلمن أنفسهن، ولم يستفد من تحررهن سوى المتاجرون بالحقوق، وأكثر ما يستهدفون الفئة الجاهلة والضعيفة ممن عجزن عن مواجهة ضعفهن باتباع السبل المنحرفة آليات دفاع للتخلص من مشاعر الدونية والاحتقار ومواجهة التنمر بمسارات رسمت لهن مسبقاً بتقديم الإعلام لنماذج من النساء نلن من الشهرة والتقدير المبالغ به في خضوعهن لإرادة أصحاب السلطة والقرار والتأثير، ويحصلن على الدعم المفرط، ومن ثم يُسخرن لتحقيق مآرب تخدم قضايا معينة ترمي إلى خراب الأسر والمجتمعات، فالشهرة بأية طريقة ووسيلة ولو على حساب عفتهن وكرامتهن. بينما لا صدى يذكر لعالمات أو مفكرات، ولا لمكافحات تحت وطأة ضغوط الحياة إلا ما ندر. هكذا تسقط النماذج الحرة الفاعلة في الحياة من النساء.
ومما يدعو للتفاؤل، أن المرأة العربية والمسلمة، وان كانت حبيسة إحدى فكرتين التحرر الذي صارت تخشى عواقبه لقلة الوعي الثقافي والحضاري، وبين خيار الانزواء بدور محدود يقيد مواهبها وقدراتها المتنوعة، وبرغم وضوح التخبط الذي تعيشه المرأة العربية والمسلمة بين آراء وقرارات متضاربة ومتناقضة حول حقوقها وما تريده فعلاً بعيداً عن كل المؤثرات الخارجية الغريبة عن ثقافتنا المميزة التي ترى في المرأة حرمة وقدسية يجب الحفاظ عليها دون تقييد أو انتهاك لحقوقها، وهذا ما يميزها عن نساء العالم، حيث أن مظالم الحضارة الزائفة قد أوقعت المرأة في فخاخ أبرزها بمسمى (الحرية). وحتى الاحتفال بيوم المرأة العالمي، لعله نوع من هذه الفخاخ الناعمة التي تصور للمرأة أهميتها وقيمتها المجتمعية، والحقيقة أنها تُضيق القضية، وتهبط بالفكرة إلى حد السذاجة. إن هذه الحقائق تعود بنا لنقيم من جديد عظم ديننا الحنيف في إعطاء كل ذي حق حقه رجلاً وامرأة وطفلا، كل إنسان على وفق وعيه وسعة مقدرته: (لا يُكلِفُ الله نفساً إلا وُسعها..) (البقرة: 286) وأن الخروج عن الحدود بدعوات زائفة غير مدروسة ومجهولة العواقب، هو خروج عن الحدود التي رسمها الله تعالى للإنسان، والأدوار التي بينها وفيها مصلحة ومنفعة الفرد والمجتمع في كل عصر، وبما فيها من مرونة للتغيير نحو الأفضل بلا ظلم للحقوق أو إخلال في البناء السليم للمجتمع، فالعدالة هي الأساس لبناء مجتمع سليم راق.