23 ديسمبر، 2024 11:09 ص

تشكيل الشخصيّة العراقيّة

تشكيل الشخصيّة العراقيّة

الحلقة الاولى : المقدمات
كم هي الحاجة ملحة اليوم من اجل الشروع بدراسة مظاهر ومخفيات الشخصية العراقية وتشكيلها الصعب ، وتفكيك بنيتها ، واستبطان مضامينها ورصد طبيعتها ومقارنتها مع تلك الشخصية العراقية التاريخية التي تمتع به المجتمع العراقي في ازمنة سابقة ؟ ما مدى قوة الوعي الجمعي بهول التحولات الضارة التي اصابت الشخصية العراقية ؟ وما مدى حجم الادراك العلمي بكل المثالب التي اصيبت بها الشخصية العراقية في النصف الثاني من القرن العشرين ؟ وما دلالات ذلك ؟ ما حجم الامراض والاوبئة النفسية التي ابتلى بها المجتمع العراقي الذي زادت انقساماته ، وتجذرت اسقامه ، وتفككت اواصره .. حتى بات خرابا ، وقد كسي بالمفاسد وغلبت عليه التفاهات بعدما كان يتمتع بسمعة طيبة في كل اصقاع المنطقة ؟ دعونا في هذا ” المشروع ” ان نقدّم معالجات معمقة عنه ، وان نحلل سايكلوجياته المتنوعة والتي زخرت بعادات وحالات قلما وجدت في بيئات اجتماعية اخرى في العالم .. ناهيكم عن درس مقارن لما هو سالب وضار للمجتمع ، ولما هو ايجابي وبار بالمجتمع .. وسيجد القارئ الكريم انني ساقدم بعض العلاجات والمقترحات التي يمكن ان يستفيد منها العراقيون في اعادة بناء مجتمعهم وعلاقاتهم الاجتماعية على احسن ما يكون .. كنت افكّر في مثل هذا ” المشروع ” ، وقد طلبه مني بعض الاصدقاء ، ومنهم الاخ الاستاذ اكرم سليم ليكون على شكل حلقات .. ومن ثم اخرجه ككتاب في قابل الايام . دعوني اكرس الحلقة الاولى لبوهيميا خراب الشخصية العراقية قبل ان ادخل في معالجات معمقة لطبيعة التناقضات الصعبة التي حفلت بها هذه الشخصية التي اثارت ولم تزل وستبقى تثير المزيد من التساؤلات والبحث عن اجوبة ومكاشفات ومقارنات ..
بوهيميا الخراب : فنتازيا تاريخية للبؤس العراقي
اهداني الصديق الروائي العراقي المغترب صلاح صلاح روايتيه ” تحت سماء الكلاب ” ( صدرت 2005 ) و ” بوهيميا الخراب ” ( صدرت 2009) منذ خمس سنوات ، وقد وعدته ان اسجل رؤيتي النقدية عنهما مذ يتسنّى الوقت عندي لقراءتهما .. والاخ صلاح اديب عراقي اغترب عن ترابه واهله سنوات طوال ، فهو مغترب في كندا منذ زمن طويل . وعليه ، فانه كان متحررا من قيود التفكير المغلق ، فكان من الطبيعي ،
أن تأتي رواياته وأعماله ناضجة تماما ، وصريحة ، ومباشرة من دون اخفاق ، او اخفاء للاشياء ، او نفاق ، وقد قاربت الحقائق من المكان : التراب والماء بشكل خاص .
لا اريد ان اكون ناقدا لسرديات الرواية وبنيتها الفنية ودلالاتها واشاراتها وشكلياتها ، بقدر ما يستوجب مني استنباط روحها بتصنيف معانيها القريبة والبعيدة ، كونها وثيقة تاريخية ينبغي الوقوف عندها وتحليل احداثها والربط التاريخي بين ما كان عليه المجتمع العراقي وما آل اليه اليوم .. وما تأثير بوهيميا الخراب على تدميره الذي يحصل اليوم ؟ وسوف لا احاسب النص على ما ورد فيه من اخطاء طباعية ، واعذر المؤلف من ذلك ، اذ كان على غرار بقية المؤلفين اليوم يعتمدون على ناشرين لا يحترمون الاعمال التي ينشرونها على الناس وهي حافلة باخطائها من دون اي تصويب لها ! وثمة امر آخر ، لا يمكنني معالجته لاحترامي فسحة الحرية التي يتمتع بها صلاح صلاح ، فالرجل كتب النص في مكان ما من وراء البحار ، ولم يكتبه من داخل العراق . (بوهيميا الخراب) التي سرد فيها صاحبها سيرته الذاتية ووظفها بالاسماء الحقيقية والذكريات المؤلمة ، صدرت عن دار التنوير اللبنانية للطباعة والنشر، تقع الرواية في 477 صفحة من القطع المتوسط .. ودعوني افتتح هذا ” المشروع ” في محاولة لسبر اغوار الشخصية العراقية من خلال قراءة معاني “بوهيميا الخراب “.
ان ” بوهيميا الخراب ” لم يستخدمها المؤلف بمعناها اللغوي فالبوهيمي هو الأفّاق المتشرد المترحّل، واعتقد ان صلاح صلاح قد عني بها ما حل من خراب في السلوكيات العراقية للافراد او في الجماعات الذين تفاقم امر انتشارهم بعد ان تورموا وانتفخوا لينتجوا بشرا عراقيا لا يمكننا معرفته ولا يمكننا كعراقيين التعامل معه كونه كان ولم يزل ينخر العراق ويدمّره .. وعليه ، فانني اعتقد ان البوهيميا قادت الى خراب العراق .
ولادة هستيريا التناقضات العجيبة
ان المؤلف نفسه هو نتاج حقيقي لتاريخ اجتماعي بائس اودى به تاريخ سياسي لعين ، فولادته كانت في منطقة البتاويين ببغداد عام 1962 لأب موظف رحل قبل ان يرى ولده الذي ولد بعد رحيل ابيه بخمسة اشهر، وقد تزوجت امه بعد ولادته بثلاثة اعوام .. هكذا ، وجد الطفل نفسه قد خلق ليدفع اثمانا صعبة في حياته .. وبالرغم من فراقه عنها بسبب زيجتها ، لكنه فقدها نهائيا بعد ، ان اعتقلها النظام السابق واعدمها بتهمة الانتماء للحركة الشيوعية، فكان ان صدم ولدها الوحيد صدمة قوية وبقي يفكر في المصير المجهول .. ويفكر بالزمن والغدر .. ويفكر بالمرأة التي قتلت .. وماذا فعلت حتى تقتل ؟ وحتى اناث الحيوانات لا يمكن قتلها ، فهي الوحيدة التي تمتلك سلاسل الحياة وولادة الاجيال جيلا بعد آخر ..
ان اضطهاد المرأة العراقية وقتلها هو جزء من ثقافة البؤس العراقي الذي شهدنا نماذج منها ليس في التواريخ القديمة او الوسطى ، بل في التواريخ الحديثة والمعاصرة ، فكم قتلت من نسوة وفتيات جراء شبهة او تهمة او حكاية تمس شرف العشيرة او العائلة ، وقد وصلت الى درجة الابادة الجمعية بقتل نسوة العائلة المالكة ولسيدة تجاوزت الثمانين من العمر ، وانتقالا الى سحل وتقطيع جسد امرأة في شارع الغزلاني بالموصل عام 1959 ومرورا باعدام شيوعيات عراقيات جراء عقيدة سياسية يؤمنّ بها وكيف فتك بهن بعد انتهاك اعراضهن من قبل اجهزة الامن والمخابرات وانتهاء بقتل مئات النسوة واعدامهن والفتك بهن من قبل عصابات وجماعات وميليشيات طائفية والتشفي بذلك تشفيا جماعيا من دون ان يتحرك الضمير العراقي .. بل وصل الامر الى استعادة ظاهرة السبي للنساء ، واغتصابهن عنوة والمتاجرة بهن ، واختيار الفتيات اليزيديات لهتك اعراضهن في ابشع الحالات التي حدثت في العراق بعيدا عن النخوة والعفة والادانة
الجمعية .. ناهيكم عن السلب والنهب وافراغ مدن كاملة من سكانها الذين نزحوا او هربوا من هذا التنين المتوحش .
يقول المؤلف : ” كانت المرأة هي حلمي الخرافي المجنون، اتعاطف مع المرأة حد الجنون، وأتصور ان مسألة الانسان الاول او اول صنع للانسان لم يكن آدم بل حواء “. في هذا الضياع التاريخي ، غدا المجتمع يعيش هستيريا من التناقضات العجيبة التي سببتها له عوامل متضاربة سلطوية وسياسية وتخلفية ، فهرب الى الماضي ، او هرب الى الطائفة ، او هرب الى ممارسة ادران وشقاوات بطرق ملتوية او مكشوفة ، وبات رخوا ومنه امّعا تافها ، ومنه منافقا ، ومنه لوكيا ومنه كذابا اشرا ، ومنه شريرا ، ومنه لصا ، ومنه نذلا ، ومنه ماكرا ، ومنه حاقدا ، ومنه مجرما ، ومنه ممثلا بارعا لادوار متخيلة ، اذ يعتقد بأنه الافضل على الاخرين فيبدو منفوخا على الدوام وعلى عكسه نجد شخصية من نوع آخر ، اذ يبقى معتقدا انه ضئيلا قميئا كارها حتى لنفسه ، ومنه ذاك الكاره للناجحين كبير الاذى ، ومنه متعصبا مقيتا ، .. الخ وبقدر ما نجد جملة من الطيبين والمتواضعين والانقياء والكرماء والاصفياء والنزهاء واللطفاء والذين يمدون لك يد المساعدة ، ولكن بدا واضحا ان الغلبة كانت قد حصلت للاشرار على حساب الاخيار في مجتمع تهتك علنا لاسباب مباشرة وغير مباشرة متنوعة منها سلطوية ومنها سياسية ومنها الخلطة الاجتماعية غير المدروسة ولا المتكافئة ، بل وغير المستكشفة اصلا ! – وسنحلل لاحقا اياها في حلقات قادمة – .
ان المجتمع العراقي مصاب باصابات خطيرة ، ولم يزل يعيشها حتى يومنا هذا من خلال ذاكرة جماعية بحاجة الى الالاف المؤلفة من الاطباء النفسيين ، وان ما حصل ويحصل حتى الان ما هو الا نتيجة من نتائج تحطيم المجتمع وتدميره عندما فقد المجتمع اخلاقياته العليا وسلوكياته الحضرية ، وغدا على النقيض ليغدو اليوم “مزبلة ” يرعى فيها مجموعة من المجانين !
فما الذي سيبقى من هذا العالم اذن؟
سيبقى عراق بالاسم فقط ، فلا تجده الا جدثا معفرا بالتراب .. كان في يوم ما يسمى بوطن يستوطنه شعب ويتكون من مواطنين صالحين .. كان شعبا يظهر على العالم بتاريخه وعمق تراثه وحجم ضحاياه وشهدائه ياسمانه بوطنه ، ولكنه بدا على غير ذلك تماما .. وبلاد لا تجد فيها من يعمل او من يصنع او من يزرع ليكون بلدا منتجا ، فاذا بها بلاد لا تعرف الا التفسخ والكسل والجهل المطبق .. وكيان مهزوز يسمونه ” دولة ” لا قانون يحكمها ، ولا مؤسسات تؤدي وظائفها ، ولا الجيش يحترم تقاليده وعقيدته الوطنية ، ولا خدمات بلدية تقدم الى الناس ، ولا امن او امان تفرضه او توفره للمجتمع ، وحكام يحكمون بلا اية وطنية ولا اية خبرات ولا اية اخلاق ولا اية سلوكيات مشروعة .. شخصية المسؤول ضعيفة وتافهة وجاهلة ومراوغة ولا يتمتع بأي حياء ، ولقد توضحت صورة المسؤول في العراق على انه السارق والمجرم والمستلب الذي اتى الى السلطة من اجل نهب المال العام . ان المشكلة مضاعفة عندما نعلم بأن هؤلاء قد مارسوا كل الموبقات ، ولكن السكوت عليهم من قبل العراقيين يعد جريمة كبرى .
نشرت في 1 آب / اغسطس 2016 في صحيفة أكد AKKAD ، تورنتو – كندا وعلى موقع الدكتور سيار الجميل
انتظروا الحلقة الثانيه
تشكيل الشخصية العراقية
دراسة في سوسيولوجية وسايكلوجية المجتمع العراقي المعاصر
أ.د. سيّار الجميل
الحلقة الثانية : العراقيون وصناعة البؤس العراقي
فنتازيا البؤس العراقي
لقد تنقلت بوهيميا الخراب معي في اماكن عدة ، وتجدنى طورا اتوقف لأتأمل سلاسل الاحداث فيها ، وطورا افكرّ مليا في عمق تلك الاحداث وتداعياتها ، خصوصا وانها تحكي ، كما استطيع تسميتها بفنتازيا تؤرخ للبؤس العراقي .. وهو بؤس لم يشق بمثله أي شعب من الشعوب ، ولم يعان منه أي مجتمع من المجتمعات ! وبالرغم من كل ما لديّ من رؤى وافكار حول ” النص ” ، الا أنني ساختزل ما يمكنني تسجيله حول فلسفة صلاح صلاح للخراب الكلي الذي اصاب العراق والعراقيين منذ عقود طوال من الزمن الصعب ، ان بوهيميا الخراب تمثل باختزال تلك
الشخصية غريبة الاطوار والتي نضجت في ذلك الفضاء المخيف للعراق ليس فقط حيث بعقوبة او بغداد او غيرهما ، او دجلة ومتفرعاته الشرقية حسب ، بقدر ما تعنى بالانسان في قلب وادي الرافدين ومتفرعاته ، وما حل عليه من تداعيات مريرة ، لم يشهدها أي انسان على وجه الارض .. وبوهيميا الخراب تجسّد صورة البؤس الذي كان ولم يزل يخّيم على العراق واهله الذين يتمتعون بقدر كبير من الصبر على الاذى ، وقدر كبير من الاستجابة للتحديات المريرة ، ولكن بنفس الوقت ستثير التساؤلات حجما واسعا من الغرابة عن هذه الشخصية العراقية التي جمعت فيها كل التناقضات الصعبة وطغت الطوالح فيها على الصوالح ، وهي من اصعب الشخصيات السايكلوجية المعقدة في هذا العالم ، بل وانها كانت هكذا او شبيهة منها عبر تواريخ مضت منذ القدم ، اذ تخبرنا مصادر التاريخ عن غرائب وعجائب قد حدثت عند العراقيين ، حكاما ومحكومين ، زعماء ونخب وفئات وجماهير ، اغنياء وفقراء ، علماء وادباء وجهلاء وبلداء ، متمدنين ومستنيرين ومتريفين قرويين .
ان بوهيميا الخراب ، تعبير فاضح لنظام الخراب الواحد والذي افنى المجتمع الجمعي وتنوعاته .. من خلال فرديته واحاديته وغطرسته وقسوته وساديته .. ولقد بدا المجتمع واحدا موحدا ، ولكنه كان يتحلل ويهترئ في الخفاء .. كان الرعب سيدا للموقف ، وهو الذي وحّد المجتمع في العلن ، ولكنه نخره من الدواخل نخرا في كل اجزائه ، فغابت الصراحة والانفتاح والطيبة والمثل العليا والقيم الاجتماعية الرصينة والتقاليد والاعراف الجميلة ، وغدا الانسان مريضا ومعقدا ومتلونا ومنافقا ودجالا وخداعا ومناورا وكاذبا والعوبانا ومخبولا .. او جعله مسحوقا ومهترءا ومهزوزا وخائفا ومرعوبا ومشوها ويتعامل بعدة اقنعة .. وثمة من ابواق تنفخ وتزعق ليل نهار .. او شرطة سرية ، او جواسيس ورقباء وكتبة تقارير ورجال مسالخ وأمن ومخابرات وميليشاويات رسمية بدءا برجال الامن العام والشرطة السرية وانتقالا الى المقاومة الشعبية الى الحرس القومي ، ثم الجيش الشعبي الى اشبال صدام وانتهاء بالحشد الشعبي والمليشيات الطائفية وهلم جرا .. ولم يقتصر الامر على اناس عاديين ، بل شمل الامر حتى ابناء النخب من اطباء وشعراء ومهندسين واساتذة جامعات وضباط ومعلمين وموظفين .. الخ بقدر ما نجد من اناس بمنتهى الطيبة والعطاء والكرم والمحبة وروعة الصداقة .. ستجد اناسا بمنتهى البشاعة والاذى والضرر والحقد وقلة الذوق والركض وراء المصالح الانوية والشخصية .. بقدر ما
تجد مناطق وجهويات عراقية فسيحة فيها كل الايجابيات والاخلاق الطيبة والمثاليات التي لم تعد الا مثالا للتندر والسخرية .. ستجد مناطق وجهات اخرى لا تعرف فيها الا السلبيات ..
ولعل اصعب حالة في مجتمع واحد يسكن في بلد واحد ان تجد من العراقيين يكره عراقيين آخرين كراهية عمياء .. او ان تجد مجتمعا كاملا يظهر عكس ما يبطن .. او ان تجد مجتمعا كاملا يتقلب بكامل هويته وامزجته وعقائده والوانه وحتى ثقافته بين الازمنة ، ويتلون بالوان شتى بين عهد وعهد آخر .. حكت لي احدى المثقفات العراقيات اليساريات عن بلدتها التي عاشت فيها طفولتها ، وكيف كانت تعامل المرأة من قبل ابيها او اخوتها .. وكم قتلت شابات عراقيات بمباركة امهاتهن بمجرد وشاية من الوشايات ، وكم ديس على كرامتها ، وسلبت حقوقها ليس من قبل الدولة ، بل من قبل المجتمع نفسه .
وثيقة تاريخية عن بئس سايكلوجية مجتمع لم يتخلص من امراضه
ستغدو بوهيميا الخراب وثيقة تاريخية فهي بمثابة تسجيل لزمن آني عبرت عنها حالات كانت نادرة الحدوث قبل ازمنة مضت ، وغدت عادية اليوم في حياتنا العراقية ، فهي تعبير سايكلوجي عن المشاعر التي باتت ملتبسة وهي تحمل مظاهر القسوة البشعة بابعد صورها ، خصوصا وانها حولّت الانسان من الاعلى نحو الادنى ، وغدا مجرد آلة ليس لها الا بوقها حتى تنكسر ، فيرمى في سلة المهملات من دون اي شعور بالذنب ، وقد اكتسحت حياتنا جملة من الاخلاقيات الرديئة التي لا تراعي اية مشاعر ، ولم تحترم اية احلام ، ولم تسع لتحقيق اية آمال .. وقد استلبت حريته .. وقد عدّت كل القيم الانسانية عبارة عن اشياء تافهة .. لقد تيبسّت حقوق الانسان بتأثير الحروب البشعة والسلطات القهرية والحصارات الاليمة .. وماتت معها قيم الصداقة والعلاقات القيمية الحقيقية ، وعمّت النذالة حتى لدى اولئك الذين يحملون شهادت عليا ويعدون انفسهم من النخب العليا .. واجدهم وقد استخدموا جملة من الاقنعة ، اذ يلبسون في كل يوم قناعا معينا ، ناهيكم عما فعله الكبت في سايكلوجيات الناس سواء كانوا من الذكور او الاناث ! واصبح أغلب العراقيين اليوم لا يعرفونك الا لقضاء مصالحهم الشخصية ، ولما تنتهي مصلحتهم معك قطعوا علاقتهم معك بمنتهى السفاهة والوقاحة .. انهم من ابعد الناس عن المثل والاخلاق العليا .
كنه الحرية ..
لقد نجحت بوهيميا الخراب في التعبير تعبيرا صارخا عن كنه الحرية التي افتقدت في العراق خلال مرحلة اشتعل فيها العراق باقسى حرب خاضها العراقيون وتسلط اقسى سلطة استبدادية في حياته ، وقد قادت الظروف بطبيعة الحال الى انهيارات سايكلوجية مريرة ، وسادت حالات كبت المشاعر ، وافضت الى ابشع حالات الفوضى والهمجية ، وتحول البشر الى مجموعة من الحيوانات التي تستخدم المراوغة والخيانة والنذالة والدعارة والاكاذيب والسكوت عن الحقوق وعن سفك الدماء وعن التعذيب وعن هتك الاعراض وكل المفاسد الناتجة عن ذلك من تزوير وتشويه وتلفيق وكراهية وجلافة لسان وحماقات بليدة وشتائم مقذعة وتشويه سمعة الاخرين والايذاء بسبب او من دون سبب لاذلال الضعفاء ، والضعيف عند العراقيين هو صاحب السلوك القويم ، مما يجعله يمارس السادية بابشع صورها ، ويلتذ بها ، بل ويتشفى بنكبات الاخرين حتى وان لم يعرفهم .. اما امام القوي والشقي والمتسلط والمتنفذ ، فيمارس المازوخية بأغرب صورها ، فيذل نفسه ويستصغرها ، ويغدو تافها من اجل مأرب او غاية او مصالح .. ان الامراض السلوكية تبدو مزدحمة في سايكلوجيات من ازدوجت ثقافتهم من مكان الى آخر ، او من طبيعة الى اخرى ، او من طائفة الى أخرى ، واعتقد جازما ان امراض المجتمع قد انعكست تعابيرها على السياسات التي مورست في العراق منذ عقود طويلة من السنين .. والتعبير عن الفوضى البشعة باسم الحرية الخ من الصفات الذميمة .
بالقدر الذي تمثله هذه الرواية من نزوع إلى الحرية، فإنها أيضاً عبارة عن صرخة مدوية بوجه مرحلة قاسية من حرب العراق وايران ابان عقد الثمانينيات التي خربت النفوس وزرعت فيهم التفاهات واضاعت عندهم المقاييس وخلطت من خلالها الناس الذين انهارت قيمهم وانسحقت اخلاقياتهم ، واصبح كل شيء تافها وبلا معنى . واعتقد تاريخيا ان المجتمع العراقي قد عبّر عن منتهى فوضويته باسم الحريات والقيم النبيلة كذبا وبهتانا في احداث ووقائع لا تعد ولا تحصى ابان القرن العشرين ، فاذا كان التسلط هو بيضة القبان في ابقاء المجتمع يعيش مكبوتا بكل جروحه وقروحه الداخلية وهو يظهر امام العالم بلدا موحدا وقويا ، بل واشيع بأنه من البلدان المتقدمة ( كذا ) ، ولكن بانت حقيقته وانفضح كل شيئ فيه اثر انفلات فوضويته المريرة جرى
بعد العام 2003 ليدخل مرحلة مفككة مبعثرة متشرذمة بعد مرحلة الازمنة المرعبة التي كان يخشى فيها من خياله .. فانقلب الحمل الوديع كما كان يبدو الى حيوان متوحش يظهر كل ما في دواخله من سيئات .
وتدور الاحداث الصعبة في العراق لتجسّم الشخصية العراقية ، وتحديدا في توصيف فترة اجتياح الكويت وزمن الحصار الاقتصادي على العراقيين ، حيث افتقدت الادوية والغذاء والحاجات الاساسية للانسان الذي تحطّمت معنوياته وانكسرت خواطره ، وغدا ذليلا ، ولم يعد يشغل باله الا سدّ رمقه مع انعدام الكهرباء في عموم العراق باستثناء العاصمة بغداد التي بقيت منيرة ، ونال الاطفال نصيبهم من جحيم الحياة ، ولم يعد يشغل بال العراقيين مستقبلهم عندما غابت حتى اقلام الرصاص ليتعلم اولادهم وبناتهم القراءة والكتابة .. وانسد العالم بوجوههم ولم يعد يعرفوا من العالم شيئا ، اذ حوصروا اعلاميا وثقافيا بقوة السلطة والخوف من عقوباتها ، اذ كان الحصار قد دمّر مجتمع العراق ثقافيا ، وانسحق كل المثقفين العراقيين ودمرت سايكلوجيات الادباء والمبدعين ، كما انتهكت العلاقات الاجتماعية في بنية المجتمع انتهاكات مريرة جراء فساد العلاقات واستغلال ذوي النفوس الضعيفة للموقف الشاحب ، وسيطر الخوف على الناس ، وكلما تقدم الزمن كان الخوف يتحول الى فوبيا مرعبة ، بل ويتحّول سايكلوجيا تحت مسميات شتى الى شخصية متعددة الاشكال ، ومستترة الاغراض ، اذ تمت اوسخ الساديات والمازوخيات في عمليات تفريخ الجواسيس والمخبرين وكتّاب التقارير الحزبية ، وتجييش المصفقين .. من اجل عبادة ” البطل ” ، او تقديس ” الحزب ” ، او تأليه ” المرجع ” ، او تمييز ” الطائفة ” ، او الهذيان بـ ” الشعارات ” .. ، فتفكك نسيج المجتمع بصورة لا يمكن تخيلها جراء القمع والاضطهاد الذي لم يجد الناس مهربا الا الدين الذي غدا بديلا او مهربا بعيدا عن الرؤية والتفكير في أساليب العصر والتمدن ، ولما كان الدين لا يحمي ابدا منظومة الاخلاق المدنية التي تمّ توظيفها لدى اجيال سابقة ، فان المناداة بشريعة السلف اصبحت بديلا عن قوانين هذا العصر ، فكان ان انحدر المجتمع انحدارا سريعا نحو قيعان ومستنقعات لا يحيا فيها الا بعض المتوهمين الغاطسين في اعماق من البوهيميا والضياع والاوهام والمؤمنين بالخزعبلات واخذوا يمارسونها باساليب متعصبة مغالية جهويا وطائفيا ..
انتظروا الحلقة الثالثة
نشرت في 1 آب / اغسطس 2016 في صحيفة أكد AKKAD ، تورنتو – كندا وعلى موقع الدكتور سيار الجميل