23 ديسمبر، 2024 2:06 ص

تسويق الخوف المؤجل

تسويق الخوف المؤجل

الكثير من المحللين السياسيين في أمريكا وأوروبا والعالم العربي يضعون العديد من السيناريوهات حول كيفية وطبيعة وشكل الرد الإيراني على مقتل سليماني ..
هناك ثلاث سيناريوهات يتحدث عنها الجميع وكلها تتوقع أن يكون الرد صاروخيا وعلى أهداف أمريكية منتقاة في العراق, وأن تلك الهجمات ربما تتعدى الى الدول المجاورة, وربما الى تهديد طرق الملاحة البحرية في مضيق هرمز والخليج العربي والبحر الأحمر ..
وطبعا سترد امريكا بالمثل على أهداف تابعة للحرس الثوري داخل العراق وربما يتطور التصعيد الى العمق الايراني نفسه (( وهو إحتمال بعيد جدا )) وذهب البعض إلى فتح جبهة جديدة من المناوشات العسكرية الصاروخية بن حزب الله وإسرائيل, وهو ما نفاه نصرالله في خطابه الاسبوع الماضي لتطمين جيرانه اليهود ..
ولكن ربما هناك سيناريو رابع
ربما لن ترد إيران بالشكل المباشر والمبالغ فيه على مقتل سليماني
وقد ذهب البعض الى أن إغتياله كان عقابا لسليماني لفشله في وأد التظاهرات والقضاء عليها بوقت قياسي في العراق, وكما يحدث في ايران على مدى سنوات, وأن نهايته المأساوية كانت مخططة سلفا ومتفق عليها وبترتيب بين أمريكا وإيران, بعد أن أنتهى دوره المطلوب في العراق وسوريا ولبنان, وأن نهايته البشعة كانت نتيجة لمؤامرة وخيانة شيعية شيعية بين الطغمة الفاسدة في العراق, في معركة كسر العظم وتصفية للحسابات, وهي كلها تكهنات وتحليلات مرسله ..
العلاقة بين امريكا وايران اعمق بكثير وابعد من مقتل سليماني فهي علاقة استراتيجية وساذج من يعتقد بانها ستنتهي الى عداء بتغير الرؤساء, بوش الصغير ,اوباما, ترامب, فترامب ووزير خارجيته يرددون دوما لازمة ومقولة باتت كأسطوانة مشروخة وهي أن هدفهم ليس تغيير النظام في إيران, وهم حريصون على ترديدها في كل مناسبة ..
إن هدف الرئيس ترامب واضح واعلنه دوما كشعار انتخابي يكسب من خلاله تاييد ناخبيه, فهو يعتبر العراق ومنطقة الخليج العربي عبارة عن حقول بترول لابد من استغلالها, وهو يعلم كما علم أسلافه أن خير من يساعده في تتحقيق ذلك هي ايران الحليف .
مقتل سليماني لايمثل سوى نقطة على سطر من كتاب العلاقة الاستراتيجية بين الطرفين, فحتى لو سلمنا جدلا بنظرية المؤامرة,فقد دأبت الدكتاتوريات حول العالم على التخلص من رجالها المخلصين بعد انتهاء ادوارهم, لان بقاءهم يمثل تهديدا مباشرا على من صنعهم وهو اسلوب قديم ومتبع في كل الامبراطوريات القديمة والحديثة, في روسيا والصين وكوريا الشمالية وحتى في امريكا نفسها بلد الديمقراطية والحريات . وهو ايضا متبع في اقليمنا الذي نعيشه والذي تسيطر عليه ديكتاتوريات حاكمة وباشكال مختلفة, وربما كانت تصفيته في هذا الوقت, جواب على تساؤلات الريبة والشك لدى الكثيرين, في أنه كان طيلة سنوات ومن قبل غزو العراق تحت أنظار المخابرات الأمريكية في مجمل تحركاته من لبنان وحتى أيران مرورا بسوريا والعراق وحتى اليمن, فلماذا في هذا الوقت بالتحديد ؟ .
ولكن, ورغم هذا وذاك كله, فقد اصبح سليماني حفرة للآثام باتت تتسع وتكبر وتزداد عمقا وحجما مع الأيام, وهي حقيقة لايمكن تجاهلها لدى كل الأطراف .
هناك نبرة جديدة بدأت تتردد في الفضائيات من قبل سياسيي الصدفة وإعلامهم, وهو رفض ان يكون العراق ساحة لتصفية الحسابات بين امريكا وايران, وهي نغمة جديدة لم نعهدها من قبل, وهي تمهد وتؤطر لتطهير وتبييض الصفحات السوداء للطغمة الحاكمة في العراق, من خلال غطاء وحرص وطني زائف وطاريء, يمهد الى إستصدار قرارات بخروج القوات الامريكية من العراق من قبل برلمان الزيف والغفلة .
لن تحدث مواجهات تؤدي الى تكرار سيناريو سوريا واليمن في العراق, ولسبب بسيط لأن العراق واحد من البلدان الكبيرة في أنتاج النفط, وأن الحفاظ على الشكل السياسي للحكم في العراق هو هاجس امريكي بالدرجة الاولى, فهي صانعة هذا النظام المريض وهي الكفيلة بحمايته واستمرار ديمومته إستمرارا لمصالحها , ولكن لابأس في شيء من التغيير من خلال تقليم أظافر أيران وتقليص نفوذها في العراق, والذي هو وفي نفس الوقت سينعكس إيجابا على الوضع الإقتصادي للشعب العراقي ..
الخلاف بين ترامب والنظام في إيران هو خلاف محصور في إعادة هيكلة وتنظيم شكل الشراكة الستراتيجية بينهما داخل العراق, ولإعادة تقسيم المصالح والنفوذ الذي إختلّت موازينه لصالح إيران في السنوات الأخيرة, والتي لابد من تعديلها وتقييمها ومن جديد, فأمريكا هي أكبر قوة في العالم وهذا ما لايجب على أي طرف أن يتناساه أو يغفله ..
كتبت منذ سنوات ومازلت أقول أن الوضع في العراق سوف يتحسن في حال تغيرت الظروف (المصالح) الدولية والاقليمية في المنطقة تغيرا ينعكس إيجابا على الوضع العراقي بشكل مباشر, كنتيجة جانبية غير مباشرة لتغيّر تلكم الظروف, وتغيّر إتجاه بوصلة المصالح, وأن مايحدث الآن في العراق هي بوادر أولية للوضع الجديد في الإقليم ككل .
بمعنى آخر, العقوبات الإقتصادية الثقيلة التي فرضها ترامب على إيران وعلى كل من يتعامل معها من الدول الأوروبية, والتي أدت الى تدهور الوضع الإقتصادي والإجتماعي داخل إيران, جعلها مكشوفة في الوفاء بإلتزاماتها أمام حلفاءها الأوروبيين الذين بدءوا بالتخلي عنها بشكل نسبي , وجعلتها أيضا مكشوفة أيضا أمام مليشياتها التابعة لها في اليمن وسوريا ولبنان وعجزها عن الإستمرار بتمويلهم من ميزانيتها وميزانيات العراق طيلة السنوات السابقة, هذا كله أظهر مدى ماوصل اليه النظام الايراني من ضعف, وأصبح لايعول عليه في “أدارة المنطقة” حسب عقيدة أوباما العتيدة, ومؤجل الى حين غير معلوم .
التظاهرات أو مايصطلح عليه بإنتفاضة تشرين هي ثورة شيعية انطلقت من بغداد والمحافظات الجنوبية, لاترفع شعارات طائفية, إنضوى تحت لواءها باقي أطياف المجتمع, هي ثورة ضد الفساد بالدرجة الأولى, لأجل تحقيق قدر معقول من العدالة الإجتماعية لعموم الشعب, إضافة الى تقليص النفوذ الايرني, وهي مطالب لاتتعارض مع السياسة الأمريكية في العراق ..
إن القضاء على الفساد أو محاربته هو في حد ذاته سيؤدي وبالضرورة الى تقليص النفوذ الايراني, ليس في العراق فحسب, بل سيقطع أذرعها أينما إمتدت وفي كل مكان .. ونحن نعول على أن تعي وتدرك الإدارة الأمريكية أن القضاء على الفساد في العراق لايتعارض مع السياسة الجديدة التي ينتهجها ترامب تجاه إيران, بل هي المفتاح الوحيد لتحقيق غاياتها ..
إن كل السيناريوهات المتداولة اليوم لشكل وطبيعة الرد أو الإنتقام الايراني لمقتل سليماني, ماهي سوى مخاوف معلبة ومؤجلة لتسويق وزرع حالة من الخوف لدى الشعب العراقي, وهي سياسة ونهج إيراني تقليدي وخبيث, حطمته إرادة الثوار الأبطال ..