23 ديسمبر، 2024 6:06 ص

انتهى عهد الانقلابات والثورات في عالم العرب كما في العالم اجمع، ولم يعد بامكان دبابة ومجموعة من الضباط اسقاط نظام حكم واستبداله باخر، شئنا ام أبينا نحن جزء من نظام دولي بعض مفاتيحه، ان لم تكن اغلبها خارج الحدود، ولم تعد ايضا الحقائق التي كنا نملكها وشكلت جزءا من وعينا وثقافتنا كما هي ايضا، تغيرت ملامح العالم اجمع وامتزج الخاص بالعام، والمحلي بالاقليمي، والوطني بالدولي، فقبل ثلاثة عقود كانت قضية العرب المركزية هي فلسطين، واليوم ومع تمزق وتهشم البناء العربي، تعددت الاهتمامات وتنوعت ولم تعد هناك قضية تجمعهم، بل على العكس تماما، خلقت قضايا تباعدهم وتزيد من فرقتهم، وكان هذا هو الهدف المطلوب، لالهاء الجميع عن نمو كيان لقيط نخر جسد الامة ومزقها، وكتب له ان يكون حقيقة واقعة، على الجميع التعايش بل والتعامل معها ونسيان ثوابت كانت تقيد حركة الجميع من الخليج الى الاطلسي، وكانت ايضا تشغل بال اوروبا وتضعها بين حين واخر في مطبات التناقض والاختلاف بين مؤيد ومعارض..
يعيش العرب اليوم، اسوأ مراحل الانحطاط، وواقعهم الحالي تجاوز مع اختلاف الزمن مراحل الانحطاط نهاية الدولة العباسية، اذ اصبحوا خارج خط التحضر بعد فقدانهم لملامح المستقبل، وانشغالهم بما هو آني، ان لم يكن ايضا انشغالهم بالماضي وهو الاسوأ والاكثر اعاقة لمسار التقدم، وبقاؤهم ضمن دائرة الوجود السلبي لامة كان يمكن لها ان تكون فاعلة ومتفاعلة ضمن مسار الحضارة الكونية الراهنة، فارتهنت ارادتها كليا بإرادات وظروف وتغيرات اقليمية ودولية، ولعل الترقب الجاري لتسلم ترامب رئاسة الولايات المتحدة احد ابرز الاوجه لهذه السلبية وهذا الخنوع المفروض بعد غياب الطليعة المقاومة، وسيطرت الاغبياء والجهلاء والعملاء على مقاليد السلطة وتفشي الامية والجهل والتخلف وتراجع الحريات وازدياد العنف والقمع وتمزق النسيج الاجتماعي العربي، مع بروز نبرة الاستهانة والاحتقار للهوية العربية والاسلامية معا، والشعور باليأس وعدم الاهلية وبالدونية احيانا كانعكاس مزيف للمقارنة بين ما يعيشه العالم الحر وما يمتلكه من منجزات علمية وانسانية، وبين ما نعيشه كامة مشغولة بالاختلافات والخرافات والاساطير، وهو اسوأ ما يمكن ان تصل اليه احوالنا..
في العراق وسوريا واليمن وليبيا وتونس ولبنان، تبدو الصورة مقلقة الى حد كبير، وهذا لايعني ان بلدان العرب الاخرى بحال يوحي بالاطمئنان، فنحن جميعا نستريح فوق الغام يمكن تفجيرها عن بعد مثلما حصل في ما سمي بالربيع العربي، واذا كان زمن الانقلابات قد ولى كما قلت، فاننا اذن امام وضع شائك لاتبدو فيه الحلول المتاحةسوى حقن مخدرة للألآم، واداؤنا السلبي جعلنا ننتظر الحلول من الخارج، اذ لم يعد بامكاننا ان نفكر او نقدم على فعل صحيح، واذا ما وجد فأن (مغنية الحي لاتطرب).. اصبحنا ازاء العالم مثل طفل بحاجة الى رعاية، وها هو الغرب يقوم بالهائنا ورعايتنا تحت مسمى الامم المتحدة، فهي التي ترعى حوارنا في اليمن وليبيا وسوريا وفي العراق وفي اجزاء اخرى، والمضحك في هذا ان حواراتنا ليست نتاج افكارنا وارادتنا وما تتطلبه مصالحنا، فما تطالب به المعارضة السورية على سبيل المثال، هو ليس ما يطالب به السوريون بل هي مطالب اخرين اقليميين ودوليين، وهكذا هو الحال في اليمن ولبنان وليبيا وفي العراق..
نحن اذن امام موجة قادمة من التسويات، في سوريا يحاول الكبار تسوية ما زعزعه الصغار، وفي اليمن تجري محاولات تقاسم النفوذ كما في العراق ايضا، الحاضرون في التسويات ممثلون محليون لمسرحية جرى تاليفها واخراجها في مراكز متخصصة شرقا وغربا، اعدت لجمهور باذخ في تصفيقه ومنحِ اعجابه وولائه.. ومع ذلك فان الطريق مازال طويلا، لتسويات جذرية تقلب المشهد وتوحي بفرصة للعودة للحياة،
فما سيجري ليس سوى خلق ازمات اقل حجما من الكارثة، لضمان انشغالنا بها لزمن غير محدد، مع الشعور ان ثمة بصيص امل في النهاية، غير ان الحقيقة، هي اننا سنمضي قدما باتجاه الكارثة..
ثلاثة عقود من الزمن كانت كفيلة بتغيير المزاج الشعبي العام دون ان يكون هناك تاثير يذكر للمثقفين والمفكرين والمناضلين والمتحمسين لانتمائهم الوطني وعروبتهم ايضا، وايضا دون تاثير لعبر التاريخ واحداثه ودروسه، تغير المزاج الشعبي من الرغبة للتطوع للكفاح والقتال ضد الكيان الصهيوني، الى رغبة لحمايته ومساندته وللانتحار بوجه اي عربي آخر مختلف مذهبيا، مع ان هذه المذاهب ليست وليدة الساعة ولكنها دائما كانت سلاح الافاقين والمجرمين للتدمير والاستغلال والسيطرة على العقول، وقد شهد تاريخنا مثلما شهدت كل تواريخ الاديان حالات التناحر المذهبي ، الا ان ذلك كان في قرون الظلام والجهل والانحطاط، وليس في عصر الاتصالات والمعرفة الواسعة الانتشار والتكنلوجيا وحقوق الانسان وعلوم الجينات والفضاء، ولكن متى نمتلك تلك اللحظة التي يكون فيها التنوع الطائفي والمذهبي مصدر غنى وثراء وقوة، بدل ان يكون سلاحا بيد الاخرين؟.. هل نلوم الصهاينة والامريكان لانهم استغلوا ضعفنا وجهلنا وتنوعنا لصالحهم؟.. نعم نلومهم لان سياستهم فيها الكثير من الاستغلال والاستهتار، ومواقفهم غير اخلاقية وغير انسانية، ولكن للاخلاق معان تختلف من مكان لاخر، ومن مجتمع لاخر، وغالبا ما تطغي المصالح، خاصة اذا كانت جماعية على الاخلاق والانسانية، ولكن قبل ذلك كان علينا ان نلوم انفسنا فنحن دائما نفتح الباب لمن يطرق دون السؤال عن هويته، بالنسبة للعراقيين مثلا، ومهما كانت الحجج والذرائع فليس مقبولا في الاقل اخلاقيا ايضا، ان نستعين بالاجنبي لازاحة نظام دكتاتوري، ثم حين نعاني الامرين نضع اللوم عليه، انه اعتراف بالعجز واتكالية علينا ان نتقبل نتائجها الكارثية الان وفي المستقبل، وهذا ينطبق على الليبيين ايضا، ولكن نظرة مختلفة الى الضمير الشعبي الجمعي الطامح نحو الحرية والعدل والكرامة لدى التونسيين تجعلنا ناسف ايضا ولكن بصورة مختلفة، فهذا الشعب الذي هب في يوم واحد متاثرا بفعل الشاب محمد البوعيزي وتمكن من ازاحة النظام وهزيمته، يستحق نظاما سياسيا افضل مما هو عليه الان، والنتائج الحالية وحالة التناحر السياسي وعدم وضوح الاتجاه هناك لاتتناسب تماما مع عطاء هذا الشعب وثورته،
كل ما استعرضته ليس سوى حقائق وبديهيات قائمة وليس من جديد فيها، غير ان تصاعد موجة التشدد والتصارع والاحتراب والقصور في نمط الحياة الطبيعي يعني اننا لم ندرك طبيعة تلك الحقائق، وان ثمة غطاء يمنعنا من الرؤية الواضحة، واننا فقط نمر بجوارها مندهشين في قبولنا ورفضنا دون ان نخضع ردود افعالنا لثوابت ومباديء ليس بالضرورة اننا مؤمنين بها، لكن من المهم انها تناسب عصرنا وتتفق مع تطلعاتنا لمستقبل يعيش فيه الانسان بحرية وكرامة..